الاعتراف الأممي بسيادة المغرب على صحرائه.. معالم من الخطاب الملكي
افتتح أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس خطابه، يوم أمس الجمعة، بالآية الكريمة: “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”؛ وإنها لحقيقة، فهو “فتح”، وهو “مبين”.. إنه “فتح” بما هو “انتقال من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير” كما جاء في الخطاب الملكي، وهو “مبين” لأنه ردع أممي لكل “تطاول على الحق المغربي في صحرائه”. وقد تضمن الخطاب الملكي، الذي جاء بمناسبة اعتماد مجلس الأمن لقرار تاريخي يرسخ سيادة المغرب على صحرائه، عددا من العناصر الأساسية التي تستحق الوقوف عندها وقوفا يليق بأهميتها من جهة، وبطابعها الاستراتيجي من جهة أخرى.
جاء في الخطاب الملكي: “إننا نعيش مرحلة فاصلة، ومنعطفا حاسما، في تاريخ المغرب الحديث. فهناك ما قبل 31 أكتوبر 2025، وهناك ما بعده”.. إنه منعطف في تاريخ المغرب ككل، لا في تاريخ الصحراء وحدها؛ هذه القضية التي أخذت من الزمن الاستراتيجي المغربي قرنا كاملا، تحلى فيه المغاربة بالبذل والتضحية والصمود رغم ما تفرضه معركة الصحراء المغربية من تكاليف اقتصادية واجتماعية وسياسية.
لقد كان كل النقاش السياسي والاجتماعي، كذلك كل القرارات الداخلية والخارجية، كانت كلها مرتبطة بقضية الصحراء وما تفرضه معركتها.. فلما حُسمت بقرار 31 أكتوبر 2025، كان ما بعد هذا التاريخ مختلفا عن التاريخ الذي سبقه.. فمغرب يدبر تحدياته وفرصه بمنطق الحريص على استكمال وحدته الترابية، يختلف مغرب يدبرها بمنطق الوحدة الترابية الكاملة والسيادة المعترف بها دوليا على أقاليمه الجنوبية.
وقال جلالة الملك في خطابه إن “الاعتراف بالسيادة الاقتصادية للمملكة، على الأقاليم الجنوبية عرف تزايدا كبيرا، بعد قرارات القوى الاقتصادية الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وروسيا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي، بتشجيع الاستثمارات والمبادلات التجارية مع هذه الأقاليم. وهو ما يؤهلها لتصبح قطبا للتنمية والاستقرار، ومحورا اقتصاديا بمحيطها الجهوي، بما في ذلك منطقة الساحل والصحراء”.. وهنا التأكيد على مدخل مهم للتقدم الذي عرفته قضية الصحراء المغربية في السنوات الأخيرة، وهو مدخل الاستثمار والمؤهلات الاقتصادية التي تكتنزها الأقاليم الجنوبية. خاصة في ظل الشرط الجيوسياسي والاقتصادي العالمي الجديد، حيث تميل الدول العظمى إلى التفكير بمنطق اقتصادي متحرر من منطقين سابقين: المنطق الإيديولوجي للحرب الباردة، والمنطق العولمي للأحادية القطبية. الحدث الذي تعرفه قضية الصحراء المغربية اليوم، ما هو إلا نتاج اظافر شرطين: شرط اقتصادي تنافسي عالمي، وشرط مغربي أحسن التفاوض على حقه التاريخي بمنطق الشرط العالمي.
وعندما يؤكد الخطاب الملكي، أنه “في سياق هذا القرار الأممي، سيقوم المغرب بتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، وسيقدمها للأمم المتحدة، لتشكل الأساس الوحيد للتفاوض، باعتبارها الحل الواقعي والقابل للتطبيق”، فهو بذلك يضيف خطوة استباقية إلى خطوات استباقية سابقة، لعل أبرزها خطوة اقتراح مخطط الحكم الذاتي عام 2007.. يخضع “الحكم الذاتي الحقيقي” للخصوصية المغربية بالضرورة، ولذلك فالمغرب أولى من غيره بوضع تفاصيل مبارته.. فكيف لمن ظل يرفض هذا الحكم منذ طرحه أن يعرف الحقيقي منه من الزائف؟! أولوية المغرب في تفصيل مبادرته أولوية ترابية وسياسية وإدارية واجتماعية واقتصادية، وهو أكثر الأطراف أهلية وقدرة على تحديد تفاصيل “الحكم الذاتي”.
وبخصوص شكر جلالة الملك “لجميع الدول، التي ساهمت في هذا التغيير، بمواقفها البناءة، ومساعيها الدؤوبة، في سبيل نصرة الحق والشرعية”، خاصة “الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا والدول العربية والإفريقية الشقيقة”؛ قلتُ: بخصوص هذا الشكر، فهو من جهة يكافئ دولا كانت سندا للمغرب في تحصيل حقها التاريخي الشرعي والمشروع، ومن جهة أخرى فهو ذو دلالة أكبر لأن موضوع الصحراء المغربية موضوع دولي وإن كان حقا مغربيا.. لقد كانت الصحراء المغربية تنتظر شرطا دوليا يحررها من الحصار الذي ضربه عليه شرط الحرب الباردة، ثم شرط الأحادية القطبية بعد ذلك. إنه شرط تحرير دولي لا يخلو من فعالية نجاعة وجدارة مغربية، ولا شك أن الخطاب الملكي يستحضر هذه الحيثيات.
وقد خص الخطاب الملكي بالذكر “الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة صديقنا فخامة الرئيس دونالد ترامب، الذي مكنت جهوده من فتح الطريق للوصول إلى حل نهائي لهذا النزاع”؛ وليس هذا التخصيص تخصيصا ثانويا، وإنما هو تخصيص رئيسي يرجع الأمور إلى حقيقتها الدولية، والأمريكية على وجه الخصوص.. ليس الأمر ببعيد عن السياسة الأمريكية الجديدة، أي السياسة الترامبية التي تسعى سعيا حثيثا لتصفير التوتر في العالم، وإطلاق الأوراش الاقتصادية التنافسية الكبرى مع الصين وغيرها من الأسواق والرأسمالات.
وقد أبدى المغرب استعداده للانخراط في الاستراتيجية الترامبية منذ ولاية ترامب الأولى، ليس من أجل سواد عيون دونالد ترامب، ولكن لأن هذه الاستراتيجية تخدم المغرب في صحرائه كذا في علاقته شمالا مع الغرب وجنوبا مع إفريقيا جنوب الصحراء وشرقا مع عمقه العربي والإسلامي دول آسيا وأوراسيا.. في استراتيجية ترامب، لا يكسب المغرب ترسيخا أمميا لسيادته على صحرائه فحسب، بل ومعه إمكانات هائلة للتوسع والتقدم والمنافسة اقتصاديا.
“ورغم التطورات الإيجابية، التي تعرفها قضية وحدتنا الترابية”، فقد أكد جلالة الملك أن “المغرب يبقى حريصا على إيجاد حل لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف”؛ فدعا جلالته “إخواننا في مخيمات تندوف” للالتحاق بالمسار الجديد بضمانات المساواة بين كافة المغاربة، كما دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، “لحوار أخوي صادق، بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة، تقوم على الثقة، وروابط الأخوة وحسن الجوار”، مع “تجديد الالتزام بمواصلة العمل، من أجل إحياء الاتحاد المغاربي، على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون والتكامل، بين دوله الخمس”.
تحتاج هذه المرجعية الوحدوية ،وطنيا ومغاربيا، إلى تأمل. فقضية الصحراء المغربية قضية وحدة، وكذلك يجب أن تكون.. إنها لم تجد طريقها إلى الحل النهائي لتفصل المغرب عن محيطه، بل لتعزز روابطه به. ولا لتنهي ما تبقى من أمل “الاتحاد المغاربي”، بل لتعيد إحياء هذا الأمل ما دامت معيقاته في طريقها إلى الانكسار دوليا وإقليميا. لا يسعى المغرب إلى هيمنة أو سيطرة، فلم تكن الدولة المغربية كذلك على مر تاريخها السلطاني الإمبراطوري أو الملكي الحديث، وهي تعرف قبل غيرها أن قوة المغرب من قوة محيطه، وأن قوة هذا المحيط من قوة المغرب.. وهذا ما ينبغي أن تنتبه إليه الجزائر، حتى لا تضيع مزيدا من زمنها التنموي والاستراتيجي كما حصل لها طيلة قرن من الزمن.