story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الاتحاد يا الوردة..

ص ص

يعقد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مؤتمره الوطني ال12 ابتداء من اليوم الجمعة 17 أكتوبر، ويستمر في اليومين الماضيين، وهي فرصة للالتفات إلى هذا الحزب الذي يمكن الجزم دون أدنى خوف من المجازفة، بكونه أعظم مز أنتج المغاربة في السياسة منذ الاستقلال.

وبالتالي فعندما نتحدث عن الاتحاد، وحتى لا يسارع البعض إلى “التوجسّ” والغضب، فنحن لا نتحدث “عنهم”، بل ننشغل “بنا” ونفكّر فينا، ونهتمّ بما يمسّنا ويرتبط بمشتركاتنا.

لابدّ من هذا التوضيح منذ البداية، لأن هناك من يتمثّل الحزب بمعنى التنظيم، بينما يفترض أن يكون التنظيم مجرّد أداة لخدمة المشروع. تمثّل لا ينبغي أن يحمل على أي استغراب، بما أن المشروع خبا وتضاءل أمام التنظيم، حتى صار التنظيم في الاتحاد الاشتراكي الحالي هو المشروع.

فالحزب الذي وُلد من رحم الحركة الوطنية ومن صميم المعارك من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تحوّل، على امتداد عقدين من الزمن، من قوة أخلاقية مجتمعية إلى أداة تنظيمية تفاوضية، تبرع في إدارة مصالحها أكثر مما تبرع في صناعة الأمل أو اقتراح البدائل.إنه مسار طويل يمكن تتبّعه كخيط من الضوء يتحوّل بالتدريج إلى شعلة خافتة.

ومنذ نهاية التسعينيات، لحظة “التناوب التوافقي” التي حملت عبد الرحمان اليوسفي إلى الوزارة الأولى، بدأ الاتحاد يخرج من موقع الحارس الأخلاقي للأمة إلى موقع الشريك في تدبير السلطة.

ولم يكن ذلك في ذاته انحرافا، بل ضرورة تاريخية أملتها سياقات الانتقال الديمقراطي ومطلب إنقاذ الدولة من أزماتها المتراكمة. غير أنّ تلك المشاركة، بما انطوت عليه من تسويات ومساومات، غيّرت طبيعة الحزب من الداخل، فهزّت توازنه الدقيق بين المبدئي والبراغماتي، بين الضمير والموقع.

دخل اليوسفي، رحمه الله، الحكومة مؤمنا بأن التناوب سيكون بداية دمقرطة حقيقية للنظام السياسي، وأن الحزب الذي ناضل عقودا في الهامش سيصبح قلب السلطة الأخلاقي. لكنّ ما أعقب تلك التجربة لم يكن سوى خيبة بحجم التطلعات.

فقد انتهى التناوب بصدمة سياسية حين أُقصي الرجل في آخر لحظة من ولاية ثانية دون تفسير مقنع، لتبدأ مرحلة ما بعد اليوسفي التي مثّلت في نظر كثيرين انكسارا في خطّ الاستقلالية والرمزية.

ومنذ تلك اللحظة، أخذ الاتحاد يفقد جزءا من صورته كضمير جماعي، ويتحوّل شيئا فشيئا إلى جهاز سياسي براغماتي يعيش على رصيده التاريخي أكثر مما يجدد إنتاجه.

لم تكن الخسارة الأولى انتخابية، بل كانت معنوية. فحين يصبح همّ الحزب هو البقاء داخل المعادلة لا تغييرها، يفقد معنى وجوده. وخلال حكومتي جطو ثم الفاسي، حافظ الاتحاد على تمثيل وزاري مؤثر، لكنه كان تمثيلا بلا روح نضالية. ومع نهاية العقد الأول من الألفية، بدأ الحزب يُختزل في صراعات قياداته، وانقسامات أجنحته، وتراجع حضوره في النقابات والجامعة والمجتمع المدني. لم يعد “الاتحاد الاشتراكي” الاسم الذي يوقظ في المغاربة إحساسا بالثقة أو بالاحتمال، بل مجرد مكوّن آخر في هندسة الحكم.

وجاءت لحظة 2011 لتكشف مقدار التآكل الذي أصابه.

ففي زمن حراك عربي كان يُفترض أن يستعيد فيه الحزب روحه التاريخية كقوة إصلاحية جذرية، بدا الاتحاد كمن يطلّ من الشرفة على التاريخ. لم يكن في الشارع، ولا في الحكومة، ولا حتى في صدارة المعارضة. ارتبك أمام الموجة الجديدة التي أعادت تعريف السياسة، وبدل أن يراجع ذاته بعمق، انخرط في معارك صغيرة حول المواقع والمقاعد.

وفي انتخابات 2016، التي شكّلت اختبارا قاسيا، تراجع إلى أدنى مستوياته، لكنه لم يرَ في الهزيمة دعوة إلى نقد ذاتي، بل مناسبة لتفاوض جديد، لعب فيه دورا وظيفيا “صغيرا” للغاية، بحثا منه على موطئ قدم في التوازنات المقبلة.

ومع مفاوضات تشكيل حكومة 2017، اكتمل التحوّل الرمزي: الحزب الذي وُلد ليكون صوتا للمجتمع، صار مفاوضا باسم نفسه. لم يقدّم للناخبين مشروعا اجتماعيا جديدا ولا عرضا اقتصاديا مقنعا، لكنه قدّم للسلطة خدمةَ الاستقرار، كما تراه هي، باسم الشرعية التاريخية.

منذ ذلك الحين، صار الاتحاد نموذجا للحزب الذي يتقن لغة البقاء في اللعبة أكثر من لغة تغييرها. لم يعد يقيس قوته بمدى امتداده الشعبي، بل بقدرته على الإمساك بالخيوط داخل المؤسسات، وعلى الحفاظ على موقعه في “لوحة التحالفات” كوزن موازن بين القوى الأخرى. حتى صار حزبا لا هو في الأغلبية ولا هو في المعارضة.

وها هو اليوم، عشية مؤتمره الوطني الثاني عشر، يُقبل على مشهد يعيد إنتاج العطب ذاته: سعي واضح نحو ولاية رابعة لإدريس لشكر، في تمرين سياسي يكشف إلى أي مدى تمكّنت القيادة من تحويل الحزب إلى جهاز مغلق على ذاته.

فمنذ تولّيه الكتابة الأولى سنة 2012، قاد لشكر الحزب من منطق “التأهيل المؤسساتي” إلى منطق “التمركز”، أي من حزب يحمل مشروعا جماعيا، إلى تنظيم تُدار قراراته بمنطق الولاء والموقع.

كانت الولاية الثالثة إشارة إلى انسداد تنظيمي عميق، أما الولاية الرابعة فهي إعلان رمزي عن انتقال الاتحاد من حزب ديمقراطي إلى جهاز انتخابي خاضع لسلطة الفرد. لا يتعلق الأمر بشخص لشكر في حد ذاته، بل بظاهرة أوسع تتمثّل في تحوّل الحزب، الذي كان مدرسة في التداول والاختلاف، إلى مؤسسة تشتغل بمنطق “الضبط” لا “النقاش”.

لا يمكن قراءة هذا التمديد القيادي إلا كاستمرار في مسار فقد توازنه بين المبدئي والتكتيكي. فالحزب الذي قدّم للبلاد أعلاما فكرية وسياسية من طينة بوعبيد والجابري واليوسفي، يقف اليوم أمام مفارقة مؤلمة: يفاوض باسم الشرعية التاريخية أكثر مما يتحدث باسم الشرعية الشعبية.

لقد تحوّل الاتحاد إلى كيان وظيفي أكثر منه كيانا تمثيليا. بات “يسارا إداريا” يجيد ترتيب أوراقه مع السلطة لكنه فقد خيوطه مع المجتمع.

والمفارقة الأكبر أنّ هذا الحزب الذي رفع شعار الديمقراطية عقودا، لم يعد قادرا على ممارسة أبسط تمارينها داخليا. حين تُختزل القيادة في شخص واحد لاثني عشر عاما، لتُختزل معها الفكرة ذاتها: فكرة الحزب كجماعة سياسية تتداول السلطة في ما بينها.

من هنا، يصبح الحديث عن “اليسار الاتحادي” مجازا أكثر منه واقعا. فالاتحاد الذي علّم أجيالا من المغاربة أن السياسة أخلاق، يقدّم اليوم نموذجا يُعلي من منطق البقاء على منطق البديل، ومن التموقع على التغيير.

ليس في هذا النقد إنكار لتاريخ الحزب ولا لرموزه، بل هو دفاع عن معناها. لأنّ الحزب الذي كان يوما ضمير الوطن لا يليق به أن يتحوّل إلى أداة لتدوير المناصب.

إن الاتحاد الاشتراكي، وهو يقف عند هذه العتبة الفارقة، أمام خيارين لا ثالث لهما: أن يستعيد استقلاليته الأخلاقية ويعود إلى المجتمع باعتباره مشروعا إصلاحيا جديدا، أو أن يستمر في التحوّل إلى وسيط سياسي فاقد للوظيفة التمثيلية.

في النهاية، الوردة لا تموت فجأة، لكنها تذبل بصمت حين تُقطع عن جذورها. والاتحاد، إن لم يستعد تواصله مع التربة التي أنبتته، سيفقد رائحته إلى الأبد. فالمغاربة، الذين ما زالوا يحفظون أسماء رموزه عن ظهر قلب، لا يحتاجون إلى حزب يفاوض باسم التاريخ، بل إلى حزب يصنع المستقبل.

والوردة، إن لم تُروَ بالمعنى، لن تشفع لها كل محاولات التلميع.