story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الإنساني والسياسي في جنازة والد الزفزافي

ص ص

لم تكن واقعة الترخيص لناصر الزفزافي، أحد أبرز قادة حراك الريف، بحضور جنازة والده مجرد إجراء بروتوكولي عابر أو التفاتة إنسانية بسيطة، بل كانت مشهدا محملا بالرموز السياسية والدلالات المتعددة.

فالدولة، التي سمحت له بمغادرة السجن ليشارك في مراسم الدفن، ثم ليلقي كلمة علنية من سطح بيت العائلة أمام حشود غفيرة جاءت من مختلف مناطق المغرب، كانت تدرك أن ذلك لن يمر دون أن يثير السؤال: هل كان الأمر فعلا لحظة إنسانية صرفة، أم مناورة سياسية محسوبة بدقة؟

من المؤكد أن البعد الإنساني حاضر في هذه المبادرة، إذ إن حرمان شخص من وداع والده لحظة دفنه ينظر إليه عادة على أنه قسوة مفرطة لا تنسجم مع أبسط حقوق السجين، مهما كانت التهم الموجهة إليه والأحكام الصادرة في حقه.

لذلك، فإن السماح له بالمشاركة في الجنازة يدخل في إطار حرص الدولة على المحافظة على صورتها كسلطة لا تتحرك فقط بمنطق العقاب، وإنما تراعي أيضا بعض الاعتبارات الإنسانية، بما ينسجم مع القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، أو ما يعرف بـ”قواعد مانديلا”.

غير أن الاقتصار على هذا الجانب وحده سيكون تبسيطا للمشهد، لأن طريقة تنظيم هذا الحضور، وما رافقه من فسحة علنية لإلقاء خطاب، يكشفان أن الأمر لم يكن عاطفيا فحسب، بل سياسيا بالأساس.

هنا يطرح سؤال أساسي: كيف يمكن للدولة أن تعتقل شخصا وتصدر في حقه حكما قاسيا بعشرين سنة سجنا، ثم تعود بعد سنوات قليلة لكي تهيئ له الظروف التي تسمح له بالكلام العلني أمام جمهور واسع؟

هذا التناقض الظاهري يجد تفسيره في طبيعة مقاربة الدولة لإدارة الأزمات، فهي لا تكتفي بالعقاب، بل تبحث دائما عن التوازن بين الردع والتهدئة. فحين اندلعت احتجاجات الحسيمة سنة 2017 ورفعت شعارات قوية ضد الفساد والاستبداد، جاء الرد الأمني والقضائي صارما لبعث رسالة واضحة بأن تحدي الدولة له ثمن باهظ.

لكن مرور السنوات أثبت أن القبضة الحديدية لم تضعف رمزية الزفزافي، بل جعلته أكثر حضورا في مخيال العديد من أنصاره ومشايعيه. ومن هنا، جاء السماح له بالمشاركة في جنازة والده كخطوة لتلطيف صورة الدولة وتخفيف التوتر، دون أن يعني ذلك بالضرورة التخلي عن الخيار القضائي المتخذ ضده.

من الصعب تصور أن الدولة كانت ترغب في أن تجري الجنازة وفق الطريقة التي تمت بها، حيث تحولت إلى مشهد جماهيري استعاد صور الحراك وأجواءه الرمزية. لكن من الصعب أيضا الاعتقاد بأنها لم تكن تدرك مسبقا أن السماح لناصر الزفزافي بالخروج سيعيد الحسيمة، ولو لساعات قليلة، إلى فضاء احتجاجي مفتوح، فيه الأعلام والشعارات والهتافات التي ارتبطت بالحراك منذ انطلاقه.

مع ذلك، اختارت الدولة المضي في القرار، في ما يشبه اختبارا مزدوجا: اختباراً لقدرتها على ضبط الشارع والتحكم في تفاعلاته، واختباراً آخر لمدى قدرتها على تدبير رمزية رجل ظل، رغم السجن، أيقونة احتجاجية ذات حمولة تتجاوز حدود الريف إلى المجال الوطني برمته.

هذه الواقعة فتحت أيضا باب التأويلات حول ما إذا كانت تمثل تمهيدا لإطلاق سراح معتقلي الحراك في إطار عفو ملكي أو تسوية سياسية أشمل. فالتاريخ السياسي للمغرب يبين أن العفو كان دائما أداة من أدوات إعادة التوازن بين السلطة والمجتمع، سواء بعد أحداث سياسية أو توترات اجتماعية، بل ومقدمة لفسح المجال لإدماج المعتقلين في ترتيبات سياسية أو اجتماعية أوسع.

ومع أن الإفراج لم يتحقق مباشرة بعد هذه الواقعة، فإنها كانت إشارة على أن الملف لم يغلق نهائيا، وأنه يخضع لإدارة مرنة تفتح وتغلق النوافذ وفق الحسابات الظرفية وموازين القوى الداخلية والخارجية.

وما زاد اللحظة إثارة مضمون خطاب ناصر الزفزافي نفسه، إذ تجنب لغة التحدي، ووجه رسالة وطنية تؤكد أن مصلحة المغرب، من شماله إلى جنوبه، ومن ريفه إلى صحرائه، فوق كل اعتبار. وقد بدا ذلك أكثر من مجرّد محاولة لقطع الطريق أمام القراءات التي سعت إلى تصوير حراك الريف كحركة انفصالية، وتأكيدا على أن جوهر الحراك مطالب اجتماعية مشروعة في إطار الانتماء الوطني الجامع، وإنما أيضا جوابا على أصوات في المهجر أخذت تتبنى طروحات انفصالية، ووجدت في الجزائر سندا دعائيا لها.

بهذا المعنى، فإن تغاضي الدولة عن تحول حضور الجنازة إلى منبر سياسي قد يكون عائدا إلى توقعها مضمونا كهذا، لا ينفي فقط الاتهامات التي وجهت إلى الحراك وزعمائه، بل يقدم أيضا إشارات سياسية إيجابية قد تفسر على أنها محاولة لامتصاص التوتر وفتح نافذة لبناء الجسور. وهو ما يمثل مكسبا معنويا لها، حتى لو عزز في المقابل مكانة الزفزافي كرمز يتحدث بلغة الوحدة لا بلغة التمرد.

مع ذلك، حمل المشهد مفارقة لافتة. فبينما أرادت الدولة أن تظهر بوجه متسامح ومرن، وجدت نفسها عمليا تساهم في تكريس صورة زعيم يخاطب جمهورا واسعا من موقع قوة معنوية.

فالصور التي نقلتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل، والتي أظهرت الرجل مرفوع الرأس يخاطب حشدا غفيرا، ويعزيهم هو في وفاة والده وليس العكس، لم تعد صورة السجين المقيد، وإنما صورة الرمز الشعبي. وهنا تكمن المفارقة:

الدولة التي أرادت عبر الاعتقال أن تضعف من رمزيته، ساهمت من حيث لا تدري في تعميقها، وحولته إلى “بطل سياسي” في عيون كثيرين. إنها القاعدة التاريخية التي تتكرر في تجارب متعددة: كلما بالغت السلطة في التضييق، منحت خصومها قوة رمزية أكبر.

إن واقعة جنازة والد الزفزافي تختزل طبيعة الإشكالية التي يطرحها حراك الريف منذ بدايته. فالمطالب التي رفعت لم تكن انفصالية، بل اجتماعية وإنسانية بالأساس. لكن طريقة تعامل الدولة معها هي التي أعطتها أبعادا سياسية متفجرة. وحين اختارت الدولة الحل الأمني، كانت تراهن على إخماد الحراك بالقوة. غير أن الزمن أثبت أن التوترات الاجتماعية العميقة لا تحل بالقضاء والاعتقالات فقط، بل تحتاج إلى مقاربة سياسية وتنموية تعالج جذور الأزمة.

ولهذا، فإن السماح للزفزافي بالمشاركة في جنازة والده لم يكن مجرد لحظة عاطفية، بل ربما كان علامة على إدراك ضمني بأن الملف يحتاج إلى حلول تتجاوز منطق السجن.

يبقى السؤال المفتوح: كيف ستتعامل الدولة مع الرسائل التي صدرت من تلك اللحظة؟ خطاب الزفزافي كان فرصة لإعادة بناء الثقة وإطلاق مصالحة جديدة بين الدولة والريف. لكن ذلك يظل رهينا بمدى استعداد السلطة للتخلي عن منطق التدبير الأمني وحده، والانفتاح على مقاربة تشاركية تعترف بشرعية المطالب الاجتماعية وتستجيب لها ببرامج تنموية حقيقية. ومن دون ذلك، ستظل الرمزية التي اكتسبها الزفزافي ومعتقلو الحراك قائمة، وستبقى صورة الدولة معلقة بين وجه صارم يعتقل ووجه مرن يسمح بإلقاء الخطب الرمزية.

باختصار، ما وقع في الحسيمة يوم جنازة الزفزافي الأب لم يكن حادثا عاديا، بل جسّد لحظة التقاء معقد بين الإنساني والسياسي. فقد حضر الإنساني في مشاعر الابن المفجوع وفي تعاطف الناس، لكنه سرعان ما تداخل مع السياسي حين تحولت الكلمة إلى خطاب وطني جامع، وحين بدت الدولة وكأنها تستثمر المناسبة لإدارة صورتها.

في النهاية، خرجت الواقعة بما يشبه التوازن: لا مواجهة ولا مصالحة، بل إشارة إلى أن المجال لا يزال مفتوحا لتأويلات متعددة. فالزفزافي ظهر متزنا، والدولة بدت مرنة، والجمهور وجد نفسه أمام لحظة رمزية تختزن في طياتها الكثير من المعاني.

وهكذا، ستظل تلك اللحظة محفورة في الذاكرة الجماعية، كإشارة مزدوجة: إن الدولة قد تمنح فسحة للتعبير حتى في أقسى الظروف، وإن الرموز السياسية قد تولد من رحم المحن، لا فقط بإرادة أصحابها، بل أحيانا بتدبير الدولة نفسها.