story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الإضراب العام.. سقوط التوافقات

ص ص

هل هي محاولة لاختبار درجة غليان الشارع جراء السياسات الحكومية؟ أم هي “قرصة أذن” نقابية لرئيس حكومة تجاوز حدوده في سياق اجتماعي ينذر بالانفجار؟ لماذا تأخرت بعض النقابات (الاتحاد المغربي للشغل تحديدا) في رفض قانون الإضراب وفي إعلان الالتحاق بالدعوة إلى الإضراب العام؟ وما الذي يمكن استخلاصه من الصراع حول نسبة المشاركة؟ وإلى أين تتجه كل هذه التطورات؟

تلك بعض الأسئلة التي يمكن طرحها إثر تنظيم أول إضراب عام في عهد حكومة عزيز أخنوش، جرى يومي 5 و6 فبراير 2025. علما أننا إزاء حكومة مضى على وجودها ثلاث سنوات كاملة، ولم تواجه أي توترات اجتماعية أو إضرابات نقابية جدية منذ مجيئها عقب انتخابات 2021، رغم تعدد الأسباب القوية التي تدعو إلى ذلك، مثل ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، بل ارتفاع البطالة لأول مرة إلى أزيد من 13 في المائة خلال سنة 2024 مثلا، ناهيك عن اتساع ظاهرة الفقر لتشمل الطبقة الوسطى، كما أكدت ذلك تقارير مؤسسات دستورية رسمية.

وطيلة السنوات الثلاث الماضية، كان البعض ينظر إلى العلاقة الهادئة و”الودية” بين الحكومة وجل المركزيات النقابية من منظور إيجابي، يؤكد قدرة أخنوش على بناء التوافقات، بصرف النظر عن الوسائل التي يستعملها في ذلك، وكانت التصريحات المتبادلة وكذا الصور التي كانت تنشرها الصحافة عقب جلسات الحوار الاجتماعي بين أخنوش وزعماء بعض المركزيات النقابية تؤكد وجود توافق بالفعل. فما الذي حدث بين الميلودي مخاريق وأخنوش حتى انقلب الود إلى خصومة؟ وما الذي ذكّر بعض النقابات المضربة بالأزمة الاجتماعية أخيرا؟

لكل ذلك، يبدو لافتا أن تدعو جل النقابات، بما فيها تلك المقربة من السلطة، إلى إضراب عام بسبب القانون التنظيمي للإضراب، بينما لم تضغط بالقوة اللازمة من أجل إنصاف المواطنين الذين اكتووا بارتفاع غير مسبوق في الأسعار طيلة السنوات الثلاث الماضية، كما لم تتحرك ضد هذه الحكومة وهي التي تتهمها اليوم بأنها لم تستجب لجل الوعود التي قدّمتها في جلسات الحوار الاجتماعي، بل تتهم الحكومة بتجميد مؤسسة الحوار أصلا لمدة سنتين. أما الأكثر إثارة للانتباه فهو أن تحرك النقابات المضربة قد أتى في الوقت الميّت، حيث إن الإضراب العام أتى بالضبط بعد المصادقة على القانون في مجلس المستشارين الاثنين 3 فبراير، وفي اليوم نفسه الذي تقرر فيه عرض القانون إياه على جلسة التصويت والمصادقة في مجلس النواب، أي 5 فبراير.

فما الذي يحدث بين النقابات والحكومة؟ وهل نحن إزاء انهيار في التوافق فقط بين الطرفين جراء تناقض المصالح؟ أم إن خلفيات الإضراب العام تبدو أكبر من المعلن وقد يكون الهدف اختبار درجة غليان الرأي العام جراء السياسات الحكومية وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل عام؟

سقوط التوافقات

لا شك بأن إضراب 5 و6 فبراير هو الأول من نوعه في عهد حكومة أخنوش، التي مضى من عمرها ثلاث سنوات كاملة. يمكن القول بأنه أول صدام حقيقي بين أخنوش والنقابات، بصرف النظر عن نسبة نجاحه. الإضراب العام معناه أن العلاقة بين الحكومة والكيانات الاجتماعية المتمثلة في النقابات العمالية، والتي طالما لعبت دور الوساطة وقد يكون اعتراها ما اعترى المجتمع نفسه من تحولات بنيوية، قد تكسّرت. وبالتالي، فإن كل ما قيل عن قدرة أخنوش على بناء التوافقات، بما في ذلك مع النقابات، يكون قد سقط، خصوصا حينما يتعلق الأمر بقضايا أساسية مثل الحق في الإضراب، أو التقاعد، حيث أظهرت الحكومة انحيازها إلى المصالح الحقيقية التي تمثلها، أي الرأسمال. فهي في نهاية حكومة رجال المال والأعمال.

وللإشارة فإن القانون التنظيمي للإضراب أحيل على البرلمان في أكتوبر 2016، لكنه لم يدرج ضمن المسطرة التشريعية طيلة الفترة الماضية، بسبب اعتراض المركزيات النقابية، التي أصرّ بعضها على أن يكون موضوعا للحوار خارج البرلمان. ومنذ مجيء الحكومة الحالية برئاسة أخنوش، تمت برمجة مشروع القانون للمناقشة في لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب يوم 17 يوليوز 2024. ويلاحظ أن النقابات الممثلة في المجلس قد انخرطت في مناقشته طيلة الفترة الماضية، بحثا عن توافقات، قبل أن تنقلب المواقف رأسا على عقب.

خلال أول جلسة لتقديمه في مجلس النواب، قال وزير الشغل، يونس السكوري إن الحكومات السابقة “لم تستطع برمجة مناقشته، لدواعي متعددة؛ منها، على الخصوص، غياب دينامية الحوار الاجتماعي، وعدم إشراك الشركاء الاجتماعيين خلال مرحلة إعداده قبل إيداعه بالبرلمان”. مذكرا في السياق بمحطات الحوار الاجتماعي بين حكومة أخنوش والنقابات، والتي توّجت بالتوقيع على ميثاق وطني لمأسسة الحوار الاجتماعي، وعلى اتفاقين اجتماعيين نصّا معا على إخراج القانون التنظيمي للإضراب، سواء الاتفاق الاجتماعي لـ29 أبريل 2024، أو الاتفاق الاجتماعي لـ30 أبريل 2022. وقد وعد السكوري بالحوار والإنصاف من أجل بلوغ أقصى توافق ممكن بين الحكومة والنقابات حول القانون المذكور.

وقد كشف السكوري عن نقاشات طويلة بين الحكومة والنقابات حول مضمون مشروع القانون، مؤكدا أنه تم عقد سلسلة من اللقاءات التشاورية تعدت 20 شهرا من النقاش البناء داخل مؤسسة الحوار الاجتماعي، همت 50 لقاء، منها 30 لقاء مع الشركاء الاجتماعيين، و20 لقاء مع القطاعات الحكومية المعنية”، مبرزا أن “هذه المشاورات مكنت من الوقوف على مجموعة من الملاحظات والاقتراحات الناتجة عن الممارسات العملية للإضراب”.

لكن يبدو أن تلك التوافقات لم تصمد كثيرا، بما فيها تلك التي تضمنها اتفاق 29 أبريل 2024، الموقع بين الحكومة والمركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب، والذي اعتبرته الحكومة تتويجا واستكمالا للالتزامات الحكومة في إطار جلسات الحوار الاجتماعي، وتلك الواردة في اتفاق 30 أبريل 2022. وهو الاتفاق الذي قرّر تحسين الدخل من خلال إقرار زيادة عامة في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية الذين لم يستفيدوا بعد من مراجعة أجورهم، وذلك بمبلغ شهري صاف محدد في 1.000 درهم، يصرف على قسطين متساويين، الأول ابتداء من فاتح يوليوز 2024، والثاني ابتداء من فاتح يوليوز 2025.

ما شمل تحسين الدخل القطاع الخاص كذلك، من خلال الزيادة في مبلغ الحد الأدنى القانوني للأجر في النشاطات غير الفلاحية (SMIG) بنسبة 10% سيتم تطبيقها على دفعتين: 5% ابتداء من فاتح يناير 2025 و 5% ابتداء من فاتح يناير 2026، على أن الزيادة في مبلغ الحد الأدنى القانوني للأجر في النشاطات الفلاحية (SMAG) بنسبة 10% سيتم تطبيقها على دفعتين: 5% ابتداء من فاتح أبريل 2025 و 5% ابتداء من فاتح أبريل 2026، علاوة على مراجعة نظام الضريبة على الدخل ابتداء من فاتح يناير 2025 بالنسبة للأجراء. وقد تضمن الاتفاق أيضا التزام الأطراف الموقعة عليه بالانخراط في إصلاح منظومة التقاعد، والعمل على إخراج القانون التنظيمي للإضراب. وبأن تخضع تلك الإصلاحات في إطار توافقي، وباعتماد منهجية تشاركية.

لكن الملاحظ أنه كلما تقدمت الحكومة في مناقشة القانون التنظيمي للإضراب داخل البرلمان، كلما ارتفعت لهجة التصعيد من طرف بعض النقابات، التي شكلت في نونبر 2024 جبهة وطنية ضد قانون الإضراب، شملت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، والفيدرالية الديمقراطية للشغل، والمنظمة الديمقراطية للشغل، وفيدرالية النقابات الديمقراطية، وهيئات مدنية وسياسية داعمة لها، والتي أعلنت في حينه، في ندوة صحافية مشتركة، عن “بناء جبهة نضالية موحدة للدفاع عن الحق في الإضراب، بوصفه أحد المكتسبات الدستورية التي يجب حمايتها من أي مساس أو تقويض”.

ويبدو أن قرار الحكومة دمج وتوحيد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي(CNSS) والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS)، قد دفع النقابات التي شكلت الجبهة إلى القيام بمراجعة لحساباتها، وهو ما عبّرت عنه في بيانات هيئاتها الوطنية، وكذا في خطوات احتجاجية جهوية قامت بها بالأساس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، قبل الوصول إلى الإضراب العام ليومي 5 و6 فبراير الجاري.

التبريرات التي قدمتها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تتهم الحكومة بـ”الاستبداد”، وأن الإضراب العام الغرض منه “التصدي للحكومة لأنها تخدم مصالح أرباب العمل والشركات”، ولأنها تصر على “تمرير قانون الإضراب المثير للجدل”، ولأنها أبانت عن “عجزها عن مواجهة غلاء المعيشة، وتشجيعها على انتهاك قانون الشغل، والتّراجع عن المكتسبات التي حققها الموظفون والأجراء، وتأثير ذلك على القدرة الشرائية، من دون الحفاظ على الحماية الاجتماعية، وإصلاح أنظمة التقاعد”. أما الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، المقرب من حزب العدالة والتنمية، فقد برّر قراره بالدعوة إلى الإضراب العام بمبررين: الأول، يتعلق بقانون الإضراب الذي “يكبل الحق في الإضراب، والثاني دمج الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وما يترتب على ذلك من إجهاز على الحقوق المكتسبة للمنخرطين والمستخدمين.

وبسبب تسارع الأحداث، حيث أظهرت الحكومة عزمها عرض قانون الإضراب على التصويت والمصادقة قبل نهاية الدورة التشريعية الخريفية هذا الشهر(فبراير)، سارعت النقابات إلى التعبير عن رفضها للقانون، بحيث لجأت إلى مزيد من التصعيد، خصوصا حين دعت إلى عقد مجالس وطنية استثنائية، التي قرّرت شنّ إضراب وطني عام يوم 5 فبراير 2025. وهو الموقف الذي عبّرت عنه نقابات ومكونات “الجبهة الوطنية من أجل الحق في الإضراب”، التي كانت قد تأسست في نونبر الماضي، والتي دعت في بيان مشترك إلى إضراب وطني يوم 5 فبراير الجاري، وقعته كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، وفدرالية النقابات الديمقراطية، والمنظمة الديمقراطية للشّغل، ويبرّر الخطوة بأنها تأتي “احتجاجا على منهجية تعاطي الحكومة مع الوضع الاجتماعي المأزوم بشكل عام، وتمرير مشروع قانون التنظيمي للإضراب بالبرلمان الملغوم المكبل للنقابات، ضدا على مقتضيات الفصل 29 من الدّستور، من دون إشراك الهيئات النّقابية، وبلا حوار اجتماعي”.

اللافت للانتباه هو التحاق الاتحاد المغربي للشغل بالجبهة الاجتماعية التي دعت إلى الإضراب العام، بحيث لم يعلن عن قرار الالتحاق سوى ليلة الاثنين 3 فبراير 2025، إثر انسحاب برلمانييه من جلسة التصويت على القانون المذكور في مجلس المستشارين، ويعلن الدعوة إلى تمديد الإضراب ليومين، أي 5 و6 فبراير الجاري، معلنا عن تبريرات إضافية في دعوته للإضراب العام، بحيث دعا حكومة أخنوش إلى “رفع التجميد عن الحوار الاجتماعي الوطني بعد تعطيله لدورتين متتاليتين دونما سبب وجيه”، واعتبر تجميد الحوار الاجتماعي بمثابة “خرق صارخ للالتزاماتها الموقعة بين رئيس الحكومة والنقابات وأرباب العمل”، مشيرا كذلك إلى “تهريب مشروع القانون التنظيمي لحق الإضراب وتمريره بأساليب ملتوية، وبأغلبيتها العددية بمجلس النواب وبمجلس المستشارين”، مؤكدا “إصرار الحكومة وعزمها الاستمرار في ضرب أنظمة التقاعد، والهجوم على مكتسبات الأجراء في معاشاتهم ومدخراتهم الاجتماعية، بذريعة إفلاس صناديق التقاعد”. وفي الوقت نفسه وسط “اصطفاف الحكومة الى جانب أرباب العمل، والهجوم على الحريات النقابية”.

وبالتحاق الاتحاد المغربي للشغل بالجبهة الاجتماعية ضد قانون الإضراب، تكون أغلبية المركزيات النقابية قد اصطفت ضد حكومة أخنوش،- باستثناء الاتحاد العام للشغالين بالمغرب ذراع حزب الاستقلال-، مما يعني سقوط التوافقات التي جمعت الطرفين، خصوصا الاتحاد المغربي للشغل وأخنوش، منذ انتخابات 2021 على الأقل، ما يجعل من الإضراب العام لحظة تحول في علاقات الحكومة بالمركزيات النقابية، وذلك ما تكشف عنه القراءات والرسائل المتبادلة من تنظيم الإضراب ليومين، كيف ذلك؟

ردع أخنوش أم اختبار الاحتقان الاجتماعي

من المؤكد أن حدث الإضراب العام لم يعد بالحمولة السياسية التي يحيل عليها في الذاكرة السياسية والنقابية، والتي تجعل منه موقفا سياسيا في مواجهة النظام. لكن يمكن القول إن الإضراب العام في العقد الأخير على الأقل، صار موقفا سياسيا ضد الحكومة أساسا، وهي الخلاصة التي يمكن استنتاجها من الإضرابات المتكررة خلال حكومة عبد الإله بنكيران، إذ طالما استخدمت النقابات الإضرابات ليس من أجل الحوار والتفاوض النقابي فقط، بل من أجل الردع السياسي أحيانا.

هل الإضراب العام ليومي 5 و6 فبراير كان الهدف منه ردع حكومة أخنوش؟ يبدو الأمر كذلك. طيلة السنوات الثلاث الماضية، اعتقد أخنوش أن جميع القوى السياسية والنقابية والإعلامية صارت في جيبه، وهي الصورة التي اقترنت بالجمود السياسي التام في ظل الحكومة الحالية، وربما شجعته على المضي في خطوات سياسية واقتصادية وتشريعية مزعجة لأكثر من طرف في الدولة أساسا.

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدة قرارات واختيارات منها: أولا، تعييناته على رأس مؤسسات ومقاولات عمومية، التي اقتصرت على مدبرين ومسيّرين استقدمهم من شركات مجموعته “أكوا” ما دفع محللين من الداخل والخارج إلى الحديث عن “حكومة أكوا”، خصوصا وأنه نبّه أكثر من فاعل ومؤسسة إلى احتمال وجود نيّة لدى أخنوش بأن يوظف مثل هؤلاء المسؤولين في بناء استراتيجية انتخابية لسنة 2026. وثانيا، تفويت صفقة تحلية مياه البحر بالدار البيضاء إلى شركاته، ومنحها الدعم من المال العام، مما أثار جدلا قويا حول تضارب المصالح.

ويبدو أن استحواذه على الصفقة بطريقة أثارت لغطا سياسيا وقانونيا، كان خطأ نبّه جهات في الدولة إلى خطورة زواج المال بالسلطة فعلا، خصوصا في سياق اجتماعي مأزوم، وعرضة للانفجار في أي لحظة. وثالثا، تواريه عن مواجهة المجتمع، الذي وصل حدا من الغليان نتيجة ارتفاع الأسعار ونسب البطالة والفقر وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، ما يجعل رجال السلطة مثل العمال والولاة في مواجهة مباشرة مع المواطنين، وهو وضع يأكل من رصيد الدولة بدل أن يأكل من رصيد أخنوش. لكل تلك الأسباب يمكن القول إن الإضراب العام كان رسالة سياسية الغرض منها ردع أخنوش عن المضي في تكسير التوافقات التي أوصلته إلى الحكومة في انتخابات 2021.

لكن لا يعني ذلك أنها الرسالة الوحيدة من وراء الإضراب العام، فالدولة التي رخّصت به، لا شك أنها لها حساباتها الخاصة من ورائه، لعل من أبرزها قياس درجة الاحتقان الاجتماعي. وهي رسالة واضحة من وراء التضارب حول أرقام نجاح الإضراب، فبينما أعلنت المركزيات النقابية التي دعت إلى الإضراب العام عن نجاحه بنسبة تناهز 85 في المائة، ادعت الحكومة أن النسبة لم تتجاوز 32% في القطاع العام و1,4% في القطاع الخاص.

طبعا، نحن أمام طرفين في حالة صراع، وفي غياب معطيات موضوعية ومحايدة من جهة مستقلة، يصعب التسليم لأي جهة بالأرقام التي أعلنت عنها. لكن يمكن القول إن الأرقام التي أعلنت عنها الحكومة، خصوصا نتائج الإضراب في قطاعات التعليم والصحة والعدل والجماعات الترابية، وهي قطاعات لا تخفى أهميتها بالنسبة للدولة والمجتمع، وسجلت نسبا مرتفعة ربما لا تصل إلى النسبة ذاتها التي أعلنتها النقابات لكنها تظل نسبا معبّرة ولا يمكن الاستهانة بها.

ويعكس التباين ذاته في الأرقام، بين الحكومة والنقابات، أهمية الإضراب في حد ذاته، باعتباره ذلك السلاح الفعال الذي تختبر به النقابات مشروعيتها وتجذرها الاجتماعي، كما تختبر به الحكومة مدى شعبية سياساتها ونجاعة قراراتها في حل مشاكل المواطنين.

لذلك، يبدو الصراع بين النقابات والحكومة حول الأرقام مفهوما ومتوقعا، فالنقابات حين تتحدث عن نسب نجاح تفوق 80 في المائة، إنما تريد أن تؤكد على ارتفاع درجة السخط والاحتقان الاجتماعي جراء سياسات الحكومة. أما الحكومة حين تزعم أن نسبة نجاح الإضراب لا تتجاوز 35 في المائة في القطاع العام بينما لا تتجاوز النسبة 1,4 في المائة في القطاع الخاص، فهي تسعى إلى القول بأن مستوى الرضا على أدائها الحكومي أكثر من مستوى الاحتقان الاجتماعي. لكن الإشكال لدى المحلل الموضوعي يظل هو غياب جهة مستقلة تقدم للرأي العام أرقاما موضوعية ومحايدة.

ولعل إصرار حكومة أخنوش على رؤيتها تجلت أيضا في حرصها على تمرير مشروع القانون في مجلس النواب في يوم الإضراب نفسه، وهي رسالة تحدي للنقابات، لولا موقفين أظهرا ضعفها وارتباكها: الموقف لأول، تمثل في التصريحات المتوترة التي صدرت عن رشيد الطالبي العلمي، القيادي بالأحرار ورئيس مجلس النواب، التي اتهم فيها برلمانيو الاتحاد المغربي للشغل بـ”خيانة للسيادة الوطنية” لمجرد أنهم انسحبوا من جلسة التصويت على القانون في مجلس المستشارين.

الموقف الثاني، أن جلسة التصويت على القانون نفسه في مجلس النواب، يوم 5 فبراير، حضرها 104 من أصل 395 هم مجموع أعضاء مجلس النواب، صوت منهم 84 نائبا لصالح القانون بينما عارضه 20 نائبا. وقد سجلت الصحافة الغياب الكبير عن الجلسة، بحيث أفادت أن نسبة المتغيبين من النواب والنائبات وصل إلى 74%، علما أن عدد أعضاء نواب فرق الأغلبية يفوق 271 عضوا. ما يعني أن الذين حضروا للجلسة التشريعية، وعبروا عن موقف واضح سواء بالقبول أو الرفض، لم تتجاوز نسبتهم 26 في المائة.

وهو السلوك السياسي نفسه الذي تبنّاه أعضاء مجلس المستشارين، حيث إن الذين حضروا جلسة التصويت على القانون المذكور لم يتجاوز عدهم 48 مستشارا فقط من أصل 120 عضوا، أي بنسبة 40 في المائة من أعضاء المجلس، انسحب منهم 7 برلمانيين لحظة التصويت ينتمون إلى الاتحاد المغربي للشغل احتجاجا.

صحيح أن ظاهرة غياب البرلمانيين قد تعبر عن سلوك سياسي معناه رفض مشروع القانون المذكور، كما قد تعبر عن حالة من اللامبالاة، لكن في الحالتين معا فهي صفعة موجعة للحكومة لم تحسب لها حساب. وتفتح النقاش مرة أخرى على طبيعة النخبة البرلمانية التي ولجت إلى المؤسسة التشريعية بعد انتخابات 2021، وهي النخبة التي حملت أخنوش إلى رئاسة الحكومة، لكنها لم تكلف نفسها اليوم الوقوف إلى جانبه في المواقف الصعبة التي يمر منها، فضلا عن تلك التي تنتظره في الأشهر المتبقية على انتخابات 2026.