الإرغام على الكلام
كتبت الأسبوع الماضي عن “الحيلولة دون الكلام”، في سياق التعقيب على واقعة “رأيك خليك عندك”، واستهدفت بالقول التشديد على أغراض السطو على الفضاء العام وخنق المحاورة المجتمعية بمنع الناس من الكلام، في ظل السلطويات المهيمنة على كل حرية يؤّمنها أي جو ديمقراطي. وأعيد التأكيد الآن على أن مصادرة آراء الأفراد والجماعات، بأي شكل من الأشكال، هو إيغالٌ في انتزاع حق المجتمع في الكلام والتعبير لصالح الأقلية المتنفذّة المتغلّبة، التي تحتفظ بجذرها وأصلها السلطوي العابر للزمان والمكان، ولا ينفع أن تتلوّن أو تتمترس خلف الشعارات أياً كانت، لتخفي نزوعاتها التي تسعى بموجبها لاحتكار الحق في الكلام ونزعه عن الباقي.
الآن ننتقل إلى دركٍ آخر من التغوّل في استهداف حقّ المجتمع في الكلام، وهو في عمقه بعدٌ عن المدَنِية والدولة الديمقراطية، بـ”الإرغام على الكلام” (رولان بارت). فما معنى هذا الكلام؟
في مرحلة ما من إحساس السلطويات بالاسترخاء وعدم المنازعة، والشعور بفراغ الساحة بعد تجريف كل عائق، أكان سياسيا أو فكريا أو مجتمعيا، تتجاوز شهوانيةُ السلطةِ الرغبةَ في منع الناس من التعبير، بالاعتقال والتهديد والابتزاز والتشويه، أو بمحاولة شراء الذمم والترغيب، إلى السعي لإرغامهم على الكلام، أي على كلام معيّن تحت الإكراه. وفي مرحلة الإجبار على الكلام التي نقصد يكون قد تحقّق الإشباع واستُنْفِدت شهوة الحيلولة دون الكلام إلى الإرغام عليه، بحشر الكلام في أفواه الناس حشراً وإرغامهم على لفْظِه بالإكراه.
ولننزل من سماوات المعنى والفكرة إلى الأرض لتبيان غرض هذا المقال، ولنختر الصحافة نموذجاً مادامت (رأيك خليك عندك) حادثة إعلامية، والحبلُ على الجرّار في السياسة والاقتصاد وكل المجالات للقياس بلا عُسر.
إن استغراق الصحافة، باعتبارها فضاءً من فضاءات تدبير النقاش العمومي، في حالة من الزفّة والتهليل لرؤية واحدة، وتهميش باقي الأصوات والتعبيرات المجتمعية، هو نوع من الإرغام على كلام مطلوب إشاعته في كل مفاصل المجتمع وإخلاء الساحة له. وإن الصحافة، بمعنى من المعاني، مرآة المجتمع عاكسة له، ومستنطقة لتناقضاته، فإذا استحالت منشورات (وحتى مرئيات ومسموعات إن جاز التعبير)، تتغيّر عناوينها وأسماؤها لإنتاج نفس الفكرة وخدمة نفس الرؤية، نكون بإزاء حالة إرغام على الكلام لاحقة على أفعال ينتجها العقل السلطوي المهووس بالتحكّم وسحب وسحق كل فكرة مخالفة من التداول، لحرمان المجتمع من التعبير عن نفسه على نحوٍ سويٍّ.
وإن كنّا في المغرب أمام مشهد صوري للصحافات، فإن الحقيقة أننا أمام صحافةٍ واحدة غير متعددة، مع استثناءات قليلة تثبت الفكرة. عناوين كثيرة لخدمة نفس الرؤية، وتنويع في الأسلوب للانتهاء إلى الطرح ذاته، إلا ما كان ضمن اللمز والغمز بين أجنحة السلطة فلا يعدّ تعدّدية أو صحافات.
في المغرب نرصد مشهد محاولات مزمنة للإرغام على نوع محدد من الكلام، عبر السعي إلى وأد أي فكرة مزعجة أو مشروع مناقض للرأي المتنفّذ، من خلال ممارسة “التأديب” باستهداف حرية التعبير حتى يشيع معنى (رأيك خليه عندك) بين الصحافيين ونخبة المجتمع. ولعل ما تشهده الصحافة دليلٌ، إذ صار الاحتراز والتوسّع في ممارسة الرقابة الذاتية شائعا عقب سلسلة من الاستهدافات بعثت بإشارة بالغة القسوة أن “المرحلة لا تتحمّل مزيد كلام”، وأن بعضَ صفحات ما بعد 2011 طُويت، وأن المطلوب التحوّل لصحافة تسويق بعوائد شبه منعدمة لصالح المجتمع وقضية الديمقراطية، في ظل تفوّق السلطوية على الحرية في نظام سياسي هجين لا يزال يراوح متعثراً بين الديمقراطية واللاديمقراطية.
وإن الانشغال الدائم بإنتاج القداسات في الإعلام أساسا، وإدمان إبراز حضورها على حساب فاعلين آخرين، هو من جملة هذا الإرغام على الكلام. وفي المغرب لن نعدم الإشارة إلى “قداسات” يشتغل الإعلام لتسويق حضورها بكثافة، وتحجيم أي مساحة لانتقادها، بل والعنف الرمزي عبر التشهير ضد منتقديها، ضمن نزوع “الحيلولة دون الكلام”، قبل الانتقال إلى مستوى آخر بالإرغام على كلام معيّن، ليصير النهج واضحاً ويكتسب الجميع مع الوقت “مهارة المديح” وإن لم تكن بالضرورة مطلوبةً.
وأيضا، لا تجد حقائق “الفساد المهيكل” والقمع وانتهاكات القانون حيّزا في “الإعلام المُرْغَم على الكلام”، إلا ضمن تكتيكيْ الإنكار لما يمكن إنكاره، أو تبرير ما لا يمكن إنكاره، أو مهاجمة تمظهرات لنوع من الفساد تحت الطلب (لحاجة في نفس يعقوب قضاها)، متزامنا مع الترويج لـ”الإنجازات الكبرى” والمشاريع المهيكلة التي لا تتجاوز حدّ تغذية آمال كاذبة سرعان ما يتبيّن بوارُها.