story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الأسد لاجئا

ص ص

في أطول مشهد تشويقي عاشته البشرية في العقدين الماضيين على الإطلاق، أُسدل الستار ليلة السبت إلى الأحد، سابع وثامن دجنبر 2024، على حدث انطلقت فصوله قبل أكثر من 13 عاما، بسقوط النظام السوري لحزب البعث وهروب رئيسه بشار الأسد.
حدث فارق واستثنائي في تفاصيله، يستدعي من الجميع، ومن شعوب المنطقة العربية على الخصوص، التحلي بأكبر قدر من التركيز وأخذ العبرة واستخلاص الدروس، لأن الأمر يتعلّق بفصل مؤجل من حقبة الربيع العربي من جهة، ولأن العالم يعيش حاليا فترة مخاض تسارعت وتيرته للانتقال من منظومة وتوازنات سابقة إلى أخرى جديدة ستحكم مصائر دول وشعوب البسيطة لعقود مقبلة.
بدل ذلك، ما زلنا ننقاد لإغراء الأحكام الجاهزة والمسارعة للتقاطب الحاد والمواجهة والتخوين وتوزيع الاتهامات… كأن نصرة القضية الفلسطينية ودعمها وإسنادها يتناقض مع تطلّع باقي شعوب المنطقة إلي الحرية والانعتاق والعيش بكرامة.
أغرب ما سمعته هذه الأيام، حتى من بعض المثقفين والإعلاميين وقادة الرأي، هو التعبير عن الخوف على مستقبل سوريا، والتوجّس من الخلفية الأيديولوجية للمنتصرين على الأسد، كما لو أن هذا الأخير كان يوزّع الحلوى والمرطبات على السوريين.
نحن يا سادة أمام مأساة لا تقل فداحة عن المأساة الفلسطينية. أكثر من نصف الشعب السوري يعيش التشرد منذ هام الملايين على وجوههم في الأرض بحثا عن مأوى آمن، والنصف الآخر يعيش الرعب والفقر وينتظر البراميل المتفجرة والمعتقلات والتعذيب إن هو أقدم على فتح فمه بالاحتجاج.
صادف هذا الحدث وجودي في مؤتمر كبير يضم مئات الصحافيين والخبراء الإعلاميين ومدققي المعلومات، وعندما هيمن الموضوع على نقاشاتنا الجانبية وتبادلنا أطراف الحديث، كان أكثر ما هالني وأنا رفقة صحافي يعمل في إحدى الشبكات الإعلامية الكبيرة، ما تضمّنته تعليقات السوريين على محتوى المنصة، من سيل هادر بالعبارات التي تحتفي بالقدرة على نشر تعليق وتقاسم محتوى دون خوف ولا وجل.
هذا وحده يكفي كي ندرق حجم المأساة التي كان يعيشها ملايين الأبرياء داخل سجن كبير حاصرهم فيه بشّار الأسد، عبر قواته العسكرية والأمنية، ومن خلال حالة الفوضى والاقتتال التي تسبّب فيها بلجوئه الأرعن إلى القوة العسكرية بدل التجاوب مع مطالب المتظاهرين الذين خرجوا سلميا في بدايات الربيع العربي.
ما جرى هذا السبت 07 دجنبر 2024، على غرابته واستثنائية تفاصيله، هو التقاء ديناميتين: الأولى قادها الشعب السوري الذي يعتبر أكثر شعوب الدنيا غنى بالتراكمات التاريخية التي تكسبه عبقرية خاصة في فهم واقعه والتفاعل مع محيطه؛ والثانية هي توصل القوى الإقليمية والدولية إلى توافق حول تقاسم المصالح والنفوذ، ما مكّن من حسم المعركة التي كانت عالقة منذ سنوات.
ما حدث هو استكمال ما كان يجب أن يكتمل منذ أكثر من عقد من الزمن، أي إزاحة حاكم فقد كل شرعية يمكن أن تخوّله البقاء على رأس دولة. كيف تمكّن السوريون من ذلك وبأية تحالفات وعبر أية أدوات عسكرية وقتالية…؟ هذه كلها تفاصيل لا تسحب هذا الحق الأصيل من شعب تحوّل إلى فريسة لحاكم متعطّش للدماء.
أما ما يفسّر السرعة التي تسوّرت بها الأحداث، والحسم المذهل الذي جرى في بضعة أيام، فهو التوافق الواضح والمعلن الذي تم بين قوى دولية، وتحديدا روسيا وتركيا وايران، لإعادة ترتيب الوضع الميداني بما يطابق ميزان القوى الجديد الذي نتج عن الحرب الإسرائيلية على حزب الله اللبناني ومن خلاله على إيران.
لا يحتاج المرء إلى دراية كبيرة أو خبرة استثنائية كي يلاحظ تأثير الدومينو (Domino Effect) الذي نتج عن الضربة الفتاكة التي وجّهتها إسرائيل إلى حزب الله منذ عملية تفجير آلاف أجهزة الاتصالات اللاسليكية وهي بين أيدي أعضاء الحزب ومتعاطفيه، ثم بعد اغتيال زعيمه الراحل حسن نصر الله.
رغم كل الاختلافات القائمة بين شخصيتي حسن نصر الله وبشّر الأسد، إلا أن بالإمكان القول إن هذا الأخير سقط يوم اغتيل الأمين العام لحزب الله اللبناني. معطى أكده لي إعلاميون لبنانيون وسوريون، حيث شكّل هذا الاغتيال صدمة أحبطت كل المعنويات وأطلقت عملية الانهيار المتسلسل، والتي قد لا تتوقف إلى أن تقتحم طهران نفسها، وليس معاقل الأذرع الإيرانية الأخرى في العراق واليمن.
مسار تأثير الدومينو الذي يمكن أن يفسّر نسبيا الطابع المفاجئ والسريع لانهيار نظام الأسد، بدأ برفض هذا الأخير فتح أية جبهة إسناد في الجولان لتخفيف الضغط على حزب الله، لأن هناك شعور كبير في المنطقة بكون النظام السوري على ضعفه وتآكله، كان يمكنه مناوشة إسرائيل ودعم حزب الله، تماما مثلما دعم هذا الأخير نظام بشار في سوريا.
تخلّى الأسد عن حزب الله، رغم أنهما معا أدوات إيرانية بالأساس، فتخلّت ايران عن الأسد وتخلّت روسيا عن ايران، فباتت الطريق سالكة أمام تركيا التي “كانت ترغب في تكبير حصتها من الكعكة فإذا بها تفاجأ بكونها تستطيع الحصول على الكعكة كلها” بتعبير زميل أردني عارف بتفاصيل المنطقة.
تركيا هي الرابح الأكبر في ما جرى وهي عنوان التحوّل المقبل، حيث أبان نظام أردوغان مجددا عن دهائه، وقدرته الاستثنائية على ملاعبة الروس والإيرانيين والأمريكيين، كما يفعل لاعب الشطرنج الماهر، أي بمكر وطول نفس.
ولا يتعلّق الأمر بالاعتبارات الجيوسياسية فقط، أي المصالح الأمنية المباشرة لتركيا في سوريا، علاقة بالملف الكردي، بل إن سوريا تمثّل واحدة من أكبر الصفقات التي تنتظرها القوى الدولية على الإطلاق، لكونها باتت ورشا ضخما لإعادة الإعمار.
التحركات الإقليمية الأخيرة، منها لقاءات علنية جرت في بغداد والودحة، تسمح بوضوح باستنتاج حدوث تفاهمات دقيقة حول كعكة إعادة إعمار سوريا، حيث جرى تقسيمها بين دول خليجية ستقوم بالتمويل لاستثمار صناديقها السيادية، بينما ستمكّن تركيا اقتصادها من فرصة انتعاش سيدوم عقدا كاملا أو عقدين، حيث يعتمد الاقتصاد التركي أساسا على قطاع الأشغال والبناء في تحقيق النمو.
أما الفاعلون الدوليون الكبار، فنصيبهم من التوافق الذي سمح لمقاتلي أحمد الشرع (الجولاني) باعتلاء منبر المسجد الأموي في لمح البصر، فلا تحتاج إلى كثير بحث للوقوف على عالمها الكبرى، حيث ضمنت روسيا مصالحها العسكرية عبر ضمانات تركية، فيما تبدو الصفقة الكبرى لموسكو وقد تمّت مع إدارة ترامب القادمة، أي التنازل عن سوريا في مقابل خروج مشرّف من الحرب مع أوكرانيا.
الأهم في كل هذه “الحدوثة” أن السوريين، ومهما كانت الجماعات المقاتلة التي حاربت الأسد مخترقة أو موجّهة من أطراف خارجية، استطاعوا إزاحة العقبة الكبرى في طريق تحرّرهم، وهم ليسوا قاصرين أو فاقدين للإرادة حتى ينتقلوا بسهولة من الاستبداد البعثي إلى استبداد جهادي.
لقد قدّم السوريون درسا بليغا للعالم كله، ولجيرانهم العرب بالخصوص، عن الصمود والتضحية والمقاومة من أجل الحرية والكرامة. ويكفيهم حافزا على مواصلة هذا المسار أنهم أحيوا مشاعر الربيع العربي الأول، ومنحونا صورة جاهدت “الثورات المضادة” لحجبها، لحاكم قوي ومتجبّر ومدجّج بالأجهزة الأمنية والمخابرات التي لا تعرف الرحمة، يخرج وحيدا وهاربا بل ويصبح… لاجئا، بعدما دفع ملايين السوريين إلى اللجوء والمقامرة بحيواتهم من أجل الوصول إلى أرض آمنة تحفظ كرامتهم.