الأرجنتين 1978.. النظام الدكتاتوري ينظف صورته بالمونديال

في عام 2009 أصدر الصحفي البريطاني سايمون كوبر كتابا مثيرا حول رياضة كرة القدم باعتبارها أكثر الظواهر الإجتماعية والإقتصادية والسياسية تأثيرا على المجتمعات خلال القرن العشرين، ويتناول هذا الكتاب الفائز بجائزة وليم هيل، والذي اختارته مجلة “أوبزرفور” البريطانية واحداً من بين أفضل 25 كتاباً في العالم في تلك السنة، إلى كرة القدم لكونها باتت تشكل لغة كونية، تدور حولها مصائر ملايين البشر في أرجاء المعمور، وانطلق كوبر في مؤلفه بوصف الأسطورة بيليه: “كرة القدم هي اللعبة الرائعة التي تسببت بإطلاق حروب وإيقافها وكانت شرارة ثورات والسبب في بقاء ديكتاتوريين في السلطة”. وتنقل المؤلف بين 22 بلداً لكي يكشف التأثير الغريب أحياناً الذي تمارسه السلطة على السياسات والثقافات، وحاول في الوقت نفسه اكتشاف السبب الذي يجعل الكثير من البلدان تمارس لعبة بسيطة كهذه بمثل هذه الدرجة من الاختلاف، وغاص في الكثير من الأحداث التاريخية التي ارتبطت بكرة القدم وكيف استغلها قادة أنظمة دكتاتورية لتبييض صورتهم في الخارج، وتكريس استبدادهم على شعوبهم بإسم الشعور الوطني الذي تخلقه انتصارات منتخباتهم.
وكانت دورة كأس العالم لسنة 1978 بالأرجنتين، أبرز المحطات التي توقف عندها الكاتب ليظهر محاولة قادة النظام العسكري في بوينس أيرس إعطاء الشرعية الخارجية لنظامهم الدكتاتوري باستغلال كرة القدم، بعد تنفيذ انقلابهم على نظام الحكم سنة 1976، حيث قاد الجنرال “رافاييل فيديلا” الانقلاب العسكري الدموي الذي أطاح بالرئيسة “إيزابيلا بيرون” بدعم من المخابرات الأمريكية، وقد اعتُقلت “بيرون” وأعلن عن حلّ مجلس الشعب واعتقال أعضائه، وبعد أيام أصبح الجنرال “فيديلا” رئيسا للبلاد، وبدأت حملة ضخمة للتنكيل بالقوى الليبرالية واليسارية وكل الذين عارضوا الانقلاب.
المونديال لتبييض الصورة
منحت الفيفا للأرجنتين حق تنظيم كأس العالم في بداية السبعينات. وفي عام 1976 وقع انقلاب عسكري في البلاد واستولى على الحكم. وعلى عكس المتوقع رحبت الحكومة الجديدة بخطة إقامة كأس العالم. وذلك لاجتذاب الصحافيين العالميين للبلاد، مما يشكل نوعًا من الدعايا للنظام العسكري، وإقرارًا ضمنيًا بشرعيته. فشكّلت لجنة منظمة ترأسها أحد جنرالات الجيش. وكانت الأزمة منذ البداية في الموارد المالية المطلوبة. فقد عزمت الحكومة على إنشاء العديد من الملاعب الجديدة بسعة جماهيرية كبيرة، ربما تزيد عن عدد سكان المدن المقامة بها. وأرادت ربطها بشبكة الطرق الرئيسية في البلاد.
كانت الأرقام الأولية تشير إلى احتياج الأرجنتين إلى مبالغ تتراوح بين 70 – 100 مليون دولار. غير أن التكفلة الفعلية التي أعلنتها الحكومة لاحقًا بلغت 700 مليون دولار. حدث هذا في بلد كان يعاني من أعلى نسبة تضخم اقتصادي في العالم. ويُقال أن حكومة الجنرالات أجلت العديد من المشروعات الأساسية لما بعد البطولة. وتحول شعار المونديال من «25 مليون أرجنتيني ينطمون كأس العالم»، وأصبح «25 مليون أرجنتيني سوف يدفعون تكاليف تنظيم كأس العالم». ويرى بعض الاقتصاديين أن الحقيقية الغير معلنة في تلك الفترة تجاوزت الـ 700 بحوالي 400 مليون. أي أن كأس العالم كلّف الأرجنتين مليار دولار. ويمكن إدراك فداحة الرقم عند مقارنته بتكاليف كأس العالم اللاحقة لسنة 1982 في إسبانيا، والتي لم تتجاوز الـ 300 مليون!
لا شيء يقف في وجه التنظيم
أُنفقت كل هذه الأموال بغرض إظهار وجه للبلاد غير وجهها الحقيقيّ. ولتتم المهمة دخلت الجرافات إلى الأحياء السكنية العشوائية في المدن المقرر إقامة كأس العالم فيها. لتهدم مئات الأبنية السكنية. وهُجّرت الأهالي إلى أماكن أخرى لا ترقى لتنظيم المونديال، وثمة أخرين نُقلوا إلى صحراء كاتامارا. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد أقامت الحكومة جدارًا عازلاً يخفي آثار هذه الأطلال على طول الطريق المؤدي إلى مدينة روزاريو ( مسقط رأس ليو ميسي! ). وهو ما وصفه أحد الفنانين الوطنيين بـ: “إنه جدار البؤس. لقد أنشأوا لوحة جدارية ضخمة لإخفاء البؤس والقمع الذي يعيشه الناس في الأرجنتين”.
لم يكن أحدٌ في الأرجنتين بمأمن من خطر الجنرالات. فقد بلغت أعداد المختفين يوميًا في هذه الفترة ما يقارب 200 ناشط وسياسي. وتنوعت أشكال الاختفاء بين الإعدامات الفورية أو الاختفاءات القسرية. بل وصل الأمر إلى نقل معسكرات إعتقال كاملة إلى مناطق نائية أو إلى سفن لنقل البضائع. فلم يرد الجنرالات أن يقابل الصحافيين هؤلاء السياسيين المشكوك في ولائهم. وسارت الدوريات العسكرية في الشوارع لتأمين احتمالات أي مظهر احتجاج شعبي مفاجئ .
لقب بكل الطرق
اهتمت حكومة الجنرالات بشكل حاسم بضرورة حصول الأرجنتين على كأس العالم. بحيث تتماهى كرامة البلاد مع كرامة المنتخب القومي. ولأجل ذلك كان قرارهم واضحًا بمنع الصحافيين الوطنيين من توجيه أو كتابة أي انتقادات لأداء المنتخب أو للطاقم التقني. ولكن الصعوبة الحقيقية كانت في السيطرة على الصحافيين الأجانب. فلم ترد الحكومة تقديم مادة جاهزة لهم لانتقاد الأوضاع في البلاد. فلجأوا إلى الهدايا ودعوات الأطعمة والشراب من أجل نيل ودهم. ورغم انخداع نسبة لا بأس بها بهذه الصورة، إلا أن العديد من التقارير التي وصلت صحف أوروبا أقامت مقارنة بين الأغراض السياسية لكأس العالم في الأرجنتين وبين دورة الألعاب الأوليمبية التي أقيمت في برلين عام 1936 تحت حكم هتلر.
وبعد انطلاق صعدت الأرجنتين بعد الحصول على المركز الثاني في الجولة اللأولى. وفي الجولة الثانية، وقعت مع البرازيل وبولونيا والبيرو. وكان نظام النهائيات حينها يفرز صعود الأول مباشرة إلى المباراة النهائية. ففازت الأرجنتين على بولونيا بهدفين نظيفين ثم تعادلت سلبيًا مع البرازيل. وبينما فازت البرازيل على بولونيا ب 3-1 وعلى البيرو 3-0. وأصبح موقف منتخب التانغو في مأزق بعد أن تبقت لها مباراة واحدة أمام البيرو تحتاج فيها الفوز بفارق 4 أهداف من أجل الصعود.
بدأت المباراة بصورة غريبة، خاصة فيما يخص أداء حارس مرمى منتخب البيرو. وانتهى الأمر بأن استقبلت شباكة 6 أهداف وصعدت الأرجنتين لنهائي كأس العالم. لم تستطع الفيفا إثبات حادثة الرشوة حتى الآن. لكن ما يقوله سايمون كوبر في كتابه، يسرد منح الحكومة العسكرية الأرجنتينية 35 ألف طن من الحبوب الغذائية لحكومة ليما. وكذلك الإفراج عن 50 مليون دولار من ودائع بيرو في البنك المركزي الأرجنتيني. ولم تخل الصفقة من بعض قطع التسليح أيضًا والعتاد العسكري تلقتها دولة البيرو من الأجنتين.
وقبل المونديال بأيام قليلة رفض الأسطورة الهولندي يوهان كريف مرافقة منتخب الطواحين أبرز مرشحي الفوز باللقب وقتها، السفر مع منتخب بلاده إلى الارجنتين لخوض كأس العالم، بسبب تلقيه تهديدات مجهولة بتصفية أفراد عائلته ببرشلونة.
وتشير بعض المصادر حسب الكتاب إلى أن “مجلس قيادة الثورة” بالأرجنتين، أمر بإعطاء بعض لاعبي المنتخب المنشطات في المباراة النهائية ضد هولندا. حتى أن لاعبي المنتخب ماريو كيمبيس وألبرتو تارانتيني استمرا في الركض لمدة ساعة كاملة بعد المباراة. ويروي كذلك أن أحد عينات البول الخاصة بأحد لاعبي الأرجنتين للكشف عن المنشطات بعد المباراة، احتوت على مادة غريبة لا تزيد إلى في حالات الحمل عند النساء. وخرج الهولنديون حينها وهم يقولون أن الأرجنتين لم تفز بالكأس إلا لأنه مقام على أرضها.
نتائج عكسية للمونديال
فاز المنتخب الأرجنتيني بكأس العالم، وظن الجنرالات أن غرضهم من تنظيم البطولة قد تحقق، إلا أن تلك البطولة كانت سببًا في لفت أنظار العالم إلى الأرجنتين، فأخذ العالم كله يقرأ عن السياسة في الأرجنتين وما بها قمع وفساد وأصبح الحكم فيها موضع تحقيقات وتساؤلات مما شكل الضغط على الحكومة آنذاك فقامت بالإفراج عن كثير من المعتقلين السياسين، وربما لو لم تكن مباريات كأس العالم، لما أُجبر الجنرالات لاحقًا على التنازل عن السلطة لحكومة ديموقراطية منتخبة في مطلع الثمانينات.
كتب لويس مينوتي مدرب الأرجنتين آنذاك في أحد الصحف الرياضية الأرجنتينية عن تجربته في تدريب المنتخب تحت الحكم العسكري: “لقد كان ذلك يتعارض مع أسلوب حياتي. ولكن ماذا كنتُ لأفعل؟» ويرى كوبر أن هذا التصريح يائس، خرج من شخص وكأنه يعتذر عن فوزه بلقب منحه له جنرالات الجيش.
وبعدما أطلق حكم المباراة صافرة النهاية، وأعلن عن فوز الأرجنتين، خرج الجميع من سكان بيونس آيرس إلى الشوارع محتفلين طوال الليل. إذ كان هذا هو التجمهر الأول الذي يُسمَح به للناس في الشوارع منذ بداية حكم الجنرالات. وتقول إحدى السيدات التي اختفى إبناها قسريًا، ورأست لاحقًا جمعية أمهات المفقودين: “من المؤلم أن تشاهد الابتهاج على شاشات التلفاز. فقد بدا ذلك بالنسبة إلينا أمرًا خطيرًا جدًا. لأن عدم الاحتفال يعني أنك تشجع هولندا”. فشعر الأرجنتينيون المجبرون على الفرح وكأنهم غرباء في بلادهم. وكتب أحد الصحافيين: «الفرح ليس فرحًا. بل هو نوع من التنفيس في المجتمع المجبر على الصمت”.