اعترافات بنت كلب
أنا السياسة، تناهت إلى سمعي زوال الخميس 21 نونبر 2024، أصوات من داخل إحدى قاعات محكمة الاستئناف بمدينة الرباط، تأتي على ذكر سيرتي، وسيرة أصولي، وتحاول جاهدة إثبات أنني بنت كلب.
“السياسة بنت كلب”، عبارة واحدة أطلقتها الصحافية حنان بكور، ففعلت ما لم تفعله خطب الملوك ولا قوانين الدساتير، وأصبحت هي ودفاعها مجبرين على إثبات صحة هذه المعلومة، حتى لا تعاقب بتهمة نشر وقائع كاذبة.
تابعت أطوار جلسة المحاكمة، وجلست متخفّية تحت مقاعد القاعة.
شعرت كأنني صاحبة الدعوى، ومتصدرة المشهد التي تراقب القضاة وتهمس للمحامين.
كأن تلك العبارة تحولت إلى ضيف ثقيل الظل، يرفض المغادرة، بينما يحاول الجميع إقناع نفسه بأنها مجرد كلمات عابرة، وأن المحكمة هنا لغرض آخر، لا لتفكيك جملة بسيطة كشفت عن تعقيد السياسة وعبثها.
لم أكن على لائحة الحضور، لم أسجل نفسي في مكتب الوافدين على البناية الفخمة، ولم أترك هاتفي خارج المحكمة.
لكنني كنت هناك مرغمة لكثرة ترديد سيرتي، تسللت بين الصفوف، واختبأت خلف أعين المتفرجين.
كنت أتجول بخفة، أراقب كل شيء: المحامون وهم يرفعون أصواتهم دفاعا، والقضاة وهم يُبدون بالحياد، وحتى الطرف المدني وهو يحاول إقناع نفسه بأنه ضحية في شكل حمامة.
نعم، السياسة كانت هناك، لأنها في كل مكان.
بنت كلب حقيقية، تضحك بصمت، وتمعن في إتقان لعبتها، وكأنها تقول للجميع: “أنا لست متهمة هنا… بل أنتم المتهمون.”
أشفقت لحال المحامين وهم يجهدون أنفسهم في إثبات نسبي، وددت أن أخطّ لهم وللمحكمة وللتاريخ، هذا الاعتراف بأنني بالفعل بنت كلب.
سمعت همسات في قاعة المحكمة، قال أحدهم بخبث: “نحتاج إلى خبرة جينية تثبت النسب، لنتأكد أن السياسة فعلا بنت كلب.”
ضحكت بصمت، ضحكتي تلك التي تمزج بين السخرية والنباح المكتوم.
يا لسذاجتكم! لا تحتاجون إلى خبرة جينية؛ أنا أعترف بذلك بكل فخر.
نعم، أنا بنت كلب، وأعرف تمامًا من هو أبي.
والدي ليس كلبا عاديا، بل هو الكذب العظيم، سيد الحيل وصانع الأوهام. ورثت منه أنيابي الحادة وموهبتي في تمزيق الحقائق، لكنني أضفت لمسة خاصة بي: أُلبس الأكاذيب ثياب الحقيقة وأجعلها تتنزه بينكم وكأنها ملكة.
علّمني أبي أن الطريق إلى القوة يبدأ بخداع الصديق قبل العدو، وأن الوفاء رفاهية لا تحتاجها بنت كلب مثلي.
إن كنتم تبحثون عن دليل وراثي، فهو أمام أعينكم: كل تلك المحاكمات العبثية، كل القوانين التي تُفسر حسب المزاج، كل الخطابات التي تُقال ولا يُقصد بها شيء.
أليست هذه بصمتي الجينية؟ أنا السياسة، بنت كلب، أسير بينكم بفخر، وأتحداكم أن تجدوا في عالمي شيئا نقيا أو حقيقيا.
أعترف لكم يا سادة: أنا السياسة، بنت كلب التي حيّرت الفلاسفة والمنظرين.
حيّرت حنة أرندت التي تحدثت عني كفنّ لإدارة الممكن، لكنني لم أخبرها أبدا أن الممكن في يدي ليس سوى وهم، أخلقه وأعيد تشكيله لأخنق به المستحيل في أعينكم.
قالت أرندت إن السياسة مجال للحرية، وأنا أضحك كلما سمعت ذلك.
أي حرية؟ أنا من يحكم قبضته على كل اختيار، أنا من يضع القيود ثم يزينها لتبدو أساور ذهبية.
أنا التي تجعل الحرية وهما تعبدونه، بينما أضع مفاتيح السجن في جيبي.
أما مكيافيلي، فقد كان أقرب إلى فهم حقيقتي. فهو الذي نصح الحكّام بأن الغاية تبرر الوسيلة، لكنه لم يدرك أنني أنا الوسيلة والغاية معا.
أنا التي أخبركم أن القوة والحيلة وجهان لعملة واحدة، وأن الفضيلة مجرد قناع أرتديه حين أحتاج إلى خداعكم.
وأما كارل ماركس، فقد وصفني كأداة لهيمنة الطبقات، وهذا صحيح جزئيا، لكنه نسي أنني أتقن لعبة التبديل. أجعل الأغنياء فقراء والفقراء عبيدا، دون أن يدرك أحد أنني اللاعب الوحيد الذي لا يخسر.
أنا السياسة، بنت كلب التي يتجادل حولها الجميع، لكنها الوحيدة التي تعرف كيف تُبقي الجميع تحت سيطرتها.
أعدكم بالحرية وأمنحكم الأوهام.. أثير النقاشات وأخلق الأزمات.. وفي النهاية، أجعل حتى كبار المنظرين يبدون كأنهم مجرد تلاميذ في مدرستي.
أنا السياسة، بنت كلب، هكذا هو “كلب” نكرة لا تعريف له، لكنني لست كباقي بنات جنسي.
أنا التي علّمتكم كيف تبررون خطاياكم باسمي. إذا سرقتم، قلتم إنها اللعبة. إذا خنتم، قلتم إنها الدهاء. وإذا فشلتم، ألقيتم باللوم عليّ.
تظنون أنكم تستغلونني، لكن الحقيقة أنني أنا من يستخدمكم. أُلبسكم أثواب البطولة حين أحتاج إلى جنود، وأخلعها عنكم حين أقرر التضحية بكم.
أنتم عبيدي، وأنا سيدتكم التي لا ترحم.. تجلس في الظل.. تضحك على كل خطيئة تلصقونها باسمي، وتنتظر بفارغ الصبر سقوطكم التالي.
في قضية الصحافية حنان بكور، لعبت لعبتي المفضلة. صحافية كتبت بضع كلمات؟ هذا لا يهم. الأهم هو أنني أظهرت لكم كيف يمكنني تحويل الكتابات إلى جرائم، وتحويل القوانين إلى أدوات قمع أنيقة.
جعلت من القانون الجنائي سيفا مسلولا فوق رأسها، لا لأن التهم تستحق، بل لأنني أستطيع.
ووضعت قانون الصحافة في جيبي الخلفي، أخرجه فقط عندما يخدم مزاجي، وأخفيه حين لا يناسب خططي.
أنا لا أحب الوضوح.
أكره أن تكون القوانين ثابتة أو محايدة.
القانون في يدي كائن حيّ، أطعمه شهوة السيطرة، وأغذيه بالخوف والطمع. أرفعه حين أحتاج لدرع يحمي أسيادي، وأخفضه حين أقرر أن الوقت حان لتعليم أحدهم درسا لن ينساه.
نعم، هكذا أعمل. في قضية حنان بكور، لم يكن الأمر عن كلماتها بقدر ما كان عن رسالتي: لا أحد آمن.
حتى الصحافي الذي يظن أن قلمه درعه، أستطيع أن أتركه في قاعة المحكمة يتساءل: هل أنا مذنب حقا؟
أنا السياسة، بنت كلب التي لا تخجل من نسبها، ولا تتردد في إظهار أنيابها. أعترف أمامكم، أنني جعلت الصحافية حنان بكور ومرافعات دفاعها مجبرة على إثبات أنني بنت كلب، وكأن الأمر كان سرًا يحتاج إلى كشف.
ألا تدركون أنني لا أحتاج إلى شهادة من أحد؟
حين تنظرون إلى أنفسكم في المرآة بعد هذه المحاكمة، تذكروا وجهي.
حين تسألون أنفسكم: لماذا العالم هكذا؟ تذكروا إجابتي.
أنا السياسة، بنت كلب التي تسير بينكم بفخر،
التي تُضحكها محاولاتكم للهرب من قبضتي،
التي تعلم أنكم في النهاية ستعودون إليها،
لأنكم ببساطة لا تعرفون الحياة بدوني.
هاو هاو هاو