story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

اعتذار لغيثة عصفور

ص ص

لا أكتب هذه المقالة لأعلن تضامني مع غيثة عصفور، فالتضامن كلمة مستهلكة تُقال ثم تُنسى.

ولا أكتب لأبدي أسفي، وكأن ما وقع شأن فردي بعيد لا يعنيني.

بل أكتب لأنني أشعر أنني مذنب ومطالب بتقديم اعتذار علني وصريح لها باسمنا جميعا..

لا أكتب باسم أحد لكنني أترك لكم حرية الانضمام إلى هذا الاعتذار.

علينا أن نعتذر لغيثة لأننا فعلا مذنبون..

كلّنا بلا استثناء.

مذنبون لا لأننا كنّا جزءا من جوقة التنكيل التي نهشت لحمها الرمزي، ولكن لأننا سمحنا، بصمتنا ولا مبالاتنا وتواطئنا الجبان، بأن يتحوّل فضاؤنا العمومي إلى محكمة تفتيش حديثة، تنصب المشانق الرقمية قبل أن ينطق القضاء بحرف واحد.

لقد سمحنا بأن يتحوّل عِرض فتاة مغربية إلى وليمة للنهش والافتراس، وكرامتها إلى تفصيل عابر في تقارير رسمية عرجاء، أو أخبار صحفية متعطّشة للفرجة الرخيصة.

سمحنا بأن تُعامل مواطنة كما لو أنّها مجرد هامش، لا قيمة له في دفتر هذا الوطن.

ما وقع مع غيثة عصفور ليس حادثا عابرا، ولا هو مجرّد “fait divers” كما يحلو للبعض أن يصنّفه لتبديد خطورته.. هو جرح عميق في جسدنا الجماعي، وندبة ستظل شاهدة على انهيار أخلاقي وقانوني شاركنا فيه جميعا.

عندما يُعتقل إنسان على أساس شكاية لم تتأكد وقائعها، ويُزجّ به في ظلام الحراسة النظرية لثمانٍ وأربعين ساعة كاملة، ثم يُطلق سراحه بقرار حفظ، فإن ما يبقى ليس مجرد سطر يتيم في محضر الشرطة أو صفحة في أرشيف النيابة العامة.

ما يبقى هو وصمة لا تمحوها قرارات الحفظ ولا كلمات البراءة، وصمة محفورة في وجدان أسرة وأصدقاء ومجتمع. وصمة تظل تتنقل مع الضحية في كل مكان، حتى وإن برّأها القانون، لأن المجتمع يكون قد أنهى مهمته سلفا: قتلها معنويا، وتركها وحيدة تواجه رماد حياتها.

حين يصبح اسم هذا الشخص وصورته وهوية عائلته في متناول منصات رقمية متعطشة للفرجة الرخيصة، فإننا نكون أمام جريمة مكتملة الأركان: جريمة اغتيال معنوي، قد يكون أثرها أحيانا أفظع من القتل المادي.

لقد كتب المحامي ورئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، الصديق نوفل البعمري، بوضوح أن قرار النيابة العامة كان متسرعا، ولم يراعِ معطيات الواقع، وأن هذه الشابة من حقها أن تطالب بالتعويض أمام القضاء الإداري.

وذكّر السيد البعمري بأن واجب السلطات لم يكن فقط التحقيق، بل حماية هويتها وخصوصيتها، وهو ما لم يحصل.

كيف يُعقل أن نرى في قضايا الإرهاب التي تفتح في دول الحقوق والكرامة، بكل ما تحمله من خطورة، حرصا على إخفاء هوية الموقوفين بوضع غطاء على رؤوسهم، بينما تُترك شابة في مقتبل العمر عارية الاسم والوجه أمام حشود من المتفرجين والمتنمّرين؟

نحن مذنبون لأننا قبلنا أن نعيش بسرعتين متناقضتين: سرعة نحتفي فيها بدخول العقوبات البديلة كـ”ثورة” في السياسة الجنائية، وسرعة نرى فيها أشخاصا يُعتقلون ويُشهَّر بهم في قضايا “أخلاقية” تمس الأفراد لا المجتمع، وتؤدي إلى تدمير حياتهم من الداخل.

نحن مذنبون لأننا تركنا قرينة البراءة، التي يكرّسها الدستور والمواثيق الدولية، تُنتهك أمام أعيننا بلا رادع.

لقد ذكّرنا المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري سنة 2017 بقرارات صارمة: لا يجوز وصف مشتبه به بالمجرم قبل صدور حكم نهائي، ولا يجوز نشر صور أو أسماء دون موافقة، ولا يجوز إظهار معتقل بأصفاد أو قيد…

ومع ذلك، انهالت صور غيثة عصفور وتعليقات الإساءة على المنصات، وكأننا نعيش في غابة بلا قانون ولا أخلاق. بينما يفترض في السلطة التي امتدّت نحو حرية غيثة لسحبها مؤقتا طلبا لتنفيذ القانون، أن تحمي خصوصيتها، وتضمن سرّية البحث، وتمدّ يدها نحو من انتهكوا هذه السرية لحماية غيثة من أنيابهم.

أتصور الآن حال هذه الشابة وهي تخرج من 48 ساعة من الحراسة النظرية، وقد رأت حياتها تُفتَرس علنا أمام الناس.

وكم كان المشهد فاضحا لنا جميعا، لحظة خروج غيثة من المحكمة. لقد كانت تركض وهي تخفي وجهها في اتجاه سيارة صغيرة، كمن يهرب من غابة مفترسة لا من مؤسسة عدل. كانت تحتمي بباب السيارة المعدني بدل أن يحميها باب القانون.

لم يكن المشهد مجرد لقطة عابرة التقطتها كاميرا فضولية، بل كان إعلانا صارخا عن غياب الدولة. دولة لم تستطع أن تحمي مواطنة كانت في لحظة ما في نزاع مع مواطنة أخرى، وكأنها تقدّمها قربانا لوحش الافتراس ثم تتخلى عنها في منتصف الطريق.

لقد كان مشهدا يفضح فراغ القانون، ويكشف أن الأمن ليس سوى واجهة هشة، وأن الطمأنينة مجرّد خطاب لا وجود له في الواقع.

ذلك الركض المرتبك لغيثة، بين الأعين المتعطشة والعدسات المتربصة لم يكن مشهدا لشابة تحاول الإفلات من فضول صحافي، بل كان شهادة دامغة على أننا لسنا مجتمع قانون، بل أرض خلاء يصول فيها المتوحشون على كرامة الأبرياء بلا رادع.

في تلك الثواني القليلة، لم تكن غيثة وحدها التي تهرب، بل كنّا جميعا نهرب معها: نهرب من مواجهة حقيقتنا، من حقيقة أننا غابة تُنهش فيها الضحايا تحت أنظارنا الباردة، وأننا تواطأنا بصمتنا حتى صار الافتراس مشهدا عاديا لا يهزّ وجداننا.

نعم، النيابة العامة حفظت الملف لغياب الجريمة، لكن من سيحفظ قلب وعقل الضحية من أثر هذه التجربة؟

من سيحفظ أسرتها من القلق والعار المجتمعي؟

من سيعيد لها ما فقدته من طمأنينة وسكينة؟

صحيح أن غيثة تبدو من خلال فيديوهاتها السابقة قوية، وأن والدتها تحدثت بروح عالية وامتنان… لكن كم من غيثة أخرى قد تسقط في الاكتئاب والانهيار والتفكك الأسري لو وجدت نفسها في الموقف نفسه؟

حين لا تتحرك سلطات إنفاذ القانون لحماية المواطن من الاغتيال المعنوي، فهي تقول لنا عمليا إن الكرامة ليست جزءا من الأمن.

وحين لا تحرص مؤسسات الإعلام على احترام قرينة البراءة وحرمة الحياة الخاصة، فهي تخون رسالتها.

وحين نصمت جميعا، ونكتفي بتدوينات متفرقة أو بآهات تعاطف، فإننا نشارك، بقصد أو بغير قصد، في جريمة اغتيال جماعي.

اعتذاري لغيثة عصفور هو اعتذار عن عجزنا أمام هذه الهمجية الرقمية وهذا التواطؤ المؤسساتي.

هو اعتذار لأننا لم نحسن الدفاع عن القانون في بعده النبيل، ولم نصرخ بالقدر الكافي لنقول إن من واجب الدولة حماية المواطن من التشهير، تماما كما تحميه من الاعتداء المادي.

لكن الاعتذار وحده لا يكفي.

علينا أن نحوّل هذه الصرخة إلى يقظة جماعية، وإلى مراجعة عميقة لطرق إنفاذ القانون، ولأخلاقيات الإعلام، ولمسؤوليتنا الفردية والجماعية.

علينا أن ندرك أن ما حدث لغيثة يمكن أن يحدث لأي منا. وأن الافتراس الجماعي الذي يتعرض له الأفراد باسم الفضيلة هو في الحقيقة قتل للفضيلة نفسها.

في النهاية أقول:

غيثة عصفور، سامحينا. لسنا أبرياء مما وقع لك.

قد لا نكون ممن نشر الصور أو كتب التعليقات أو أصدر حكما قبل حتى أن تنتهي فترة الحراسة النظرية، لكننا تركنا جميعا هذه الآلة المتوحشة تعمل بأسمائنا ونيابة عنا.

والمطلوب اليوم ليس فقط إنصافك، بل حماية غيرك من أن يتحول غدا إلى وليمة جديدة على موائد الذئاب.