استعادة موريتانيا
تلوح في أفق سماء منطقتي المغرب الكبير والساحل والصحراء، بوادر طفرة جيوسياسية، تعيد الحياة إلى محور الرباط نواكشوط، الذي أصابه انقلاب العام 1978 المدبّر جزائريا والمدعوم فرنسيا، بعطب لم تعد معه العلاقات المغربية الموريتانية إلى سابق عهدها.
فبعد الزيارة الخاصة التي قام بها الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني للرباط قبل بضعة أيام، والتي لم تحمل من مفهوم “الخاصة” إلا الاسم؛ تفيد الأخبار القادمة من الإمارات العربية المتحدة حاليا، بقيام كل من الرئيس الموريتاني والملك محمد السادس بزيارات خاصة هناك، مع احتمال الإعلان قريبا عن اتفاق ثلاثي تموّل بمقتضاه أبو ظبي مشاريع استثمارية ضخمة تعيد الحياة إلى الحدود المغربية الموريتانية المهجورة، إلا من بعض الأنشطة المسلحة وعمليات التهريب والتنقيب عن المعادن بشكل عشوائي.
فرغم التوتّر الذي اتّسمت به العلاقات بين البلدين الجارين في السنوات الأولي لاستقلال المغرب، بفعل تأخر الرباط في الاعتراف بالدولة الموريتانية الوليدة، إلا أنه ومنذ الاعتراف الذي تجسّد في احتضان المغرب مؤتمر القمة الإسلامية للعام 1969، وقبوله مشاركة موريتانيا في اعتراف ضمني بها، نشأت علاقة ثنائية وطيدة، كان عنوانها الأبرز تنسيق البلدين وتعاونهما في تخليص الصحراء من الاحتلال الإسباني.
هذا المحور الذي صمد في وجه المؤامرات الدولية (فرنسا وإسبانيا) والإقليمية (الجزائر)، سوف ينكسر بعد الإطاحة بحكم المختار ولد دادة، والذي لم يكن على انسجام كبير مع الملك الراحل الحسن الثاني فقط، بل كان يعتبر العلاقات مع المغرب أساس سياسته الخارجية، لدرجة أن تجريدة عسكرية مغربية كانت تتمركز داخل الأراضي الموريتانية تعبيرا عن حجم المصالح المشتركة. قوات الذي ستضطر للمغادرة بعد الانقلاب الأول في تاريخ موريتانيا المعاصر.
الخطوة المنتظرة ليست سرية تماما، بل ينتطر أن تكون بمثابة انتقال إلى مرحلية عملية من ضمن الشراكة الاستراتيجية التي أعلنت بين المغرب والإمارات العربية المتحدة في مثل هذه الفترة من السنة الماضي، بمناسبة زيارة العمل التي قام بها الملك محمد السادس إلى أبو ظبي.
فقد تضمّنت تلك الشراكة، ضمن حزمة من المشاريع الضخمة، بندا يتعلّق بالاستثمار في ميناء الداخلة الأطلسي، والذي ينتظر أن يشكّل القلب النابض للمشروع الأطلسي الإفريقي الذي أعلنه المغرب مؤخرا، والذي يسعى إلى تحويل الصحراء المغربية إلى منصة للتجارة والأعمال، وربط العمق الإفريقي بالشمال الأوربي، وتمكين دول الساحل من منفذ بحري مفتوح ومؤهل لوجستيا.
الحضور الإماراتي في الصفقة المنتظرة ليس جديدا ولا طارئا، كما لا يمكن النظر إليه كنتيجة لما بعد تقدّم المغرب نحو معبر الكركرات وربطه مباشرة بالحدود الموريتانية بدل الاحتفاظ بتلك المسافة العازلة التي ظل معمولا بها إلى غاية نونبر 2020.
قد يكون العكس هو الصحيح، حيث كانت الإمارات العربية المتحدة في قلب محاولات للوساطة والتوفيق بين المغرب وموريتانيا مند أكثر من ثماني سنوات، حين برزت الخلافات حول منطقة “قندهار” التي كانت محادية للمعبر الحدودي الكركرات، ووفّرت على مدى عقود فرصة لأنشطة التهريب والتجارة الخارجة عن القانوني والمنفلتة من أية سيطرة.
أكثر من ذلك، لا يستبعد أن يكون التحرّك الجزائري الساذج لدفع عناصر مسلحة من البوليساريو لاحتلال معبر الكركرات ومنع حركة التجارة الدولية التي تتم عبره؛ ردة فعل غير مدروسة من جانب النظام الجزائري على بوادر التحوّل في العلاقات المغربية الموريتانية، بتزكية دولية، وهو ما تحوّل إلى فرصة سانحة أمام المغرب لتحقيق أكثر من المتوقّع، أي السيطرة الكاملة على المعبر وحرمان مسلحي البوليساريو من الممر الذي كان يسمح لهم بالوصول إلي ساحل الكويرة بين الحين والآخر.
وبمناسبة ذكر الكويرة، فإن الجمود الذي اتّسمت به العلاقات المغربية الموريتانية منذ أكثر من أربعة عقود، لا يعود للاعتبارات السياسية التي يفرضها نزاع الصحراء فقط، بل تفسّره أيضا مخاوف موريتانية من أن يكون التمكين التام للمغرب في الصحراء، وشروعه في تنميتها، بمثابة رصاصة الرحمة عليها وعلى اقتصادها.
حكايات شفوية سمعتها شخصيا من مصادر مختلفة، تقول إن الملك الراحل الحسن الثاني تلقى في عز اجتماعه بكبار مسؤولي الدولة لحظة تقدّم القوات المغربية لاسترجاع وادي الذهب بعد انسحاب موريتانيا منه تحت ضربات البوليساريو، (تلقى) اتصالا من مسؤول فرنسي كان يتولى تتبع الأحداث، وطلب من الملك عدم الدخول إلى الكويرة، وتجنّب أي استغلال لموقعها البحري الحيوي، لأن أبسط ميناء يقيمه المغرب في شبه الجزيرة هذه، يعني موت الميناء الموريتاني الأكبر، ميناء نواذيبو.
من هنا يمكن فهم لماذا اختار المغرب إقامة ميناء الداخلة الأطلسي شمال مدينة الداخلة، وربما شمال خط العرض الذي كان بمثابة حدود بين المغرب وموريتانيا عقب اتفاقية مدريد؛ ولماذا يعتبر إشراك موريتانيا في أي مشروع تنموي كبير في الصحراء ضروريا، لأن اندماج هذه الأقاليم المغربية في محيطها الافريقي لا يمكن أن يتم بدون انخراط موريتانيا، بل واستفادتها منه أيضا.
بهذا يصبح الموقف السياسي لموريتانيا من نزاع الصحراء، خاضعا لتأثير المصالح الجديدة التي يعد بها هذا المشروع التنموي، وتصبح نواكشوط معنية أكثر، بالخروج من موقفها الرمادي، الذي تسميه الحياد الإيجابي.
بل إن الدور الموريتاني مؤثر للغاية داخل البوليساريو ومخيماتها، لانحدار جزء من قيادة الجبهة وفئة من سكان مخيماتها، من موريتانيا…
إلا أن أي تململ في الموقف الموريتاني، سواء في ملف الصحراء أو في علاقات نواكشوط مع كل من الرباط والجزائر، يحتاج إلى تأمين للوضع الداخلي وضمانات خارجية، وهو ما يمكن اعتبار القرارات الأخيرة للرئيس ولد الغزواني، والتي اتخذها في الفترة الفاصلة بين زيارتيه لكل من الرباط وأبو ظبي، جزءا منه، حيث أجمعت التحليلات على أن الخطوة قطعت اليد الجزائرية داخل المؤسسة العسكرية الموريتانية.
يبدو أن الذكرى 50 للمسيرة الخضراء ستشهد تحولا نوعيا في قضية الصحراء، وهو ما لا يمكنه أن يحصل بدون استرجاع موريتانيا، وإحياء محور الرباط-نواكشوط، ليصبح هذه المرة، وخلافا لفترة التقارب السابق، امتدادا لمحور الرباط-مدريد.