“استعادة المبادرة” ومطلب “التشبيب” بحزب العدالةوالتنمية: ملاحظات منهجية
لا شك أن الأمل يسكن أعضاء ومحبي حزب العدالة والتنمية بشأن عودة حزبهم إلى مكانته الاجتماعية والسياسية اللائقة، ولذلك تشرئب الأعناق لهذا الأمل، الطبيعي بل والمطلوب، خاصة في ظل ما تمر منه بلادنا من ظروف، وكذا أمتنا العربية والإسلامية، والإنسانية أجمع.
وقد أطلق بعض الأعضاء على هذا المطلب اسم “استعادة المبادرة”، وهو ما يحتاج إلى تدقيق متواصل، سواء من الناحية السياسية أو المنهجية، حتى نصل به إلى غاياته الصحيحة.
حيث قلنا في مقال سابق بخصوص هذا الموضوع إن الحزب انطلق فعلا في استعادة المبادرة من جديد ما بعد المؤتمر الوطني الاستثنائي عقب النتائج الكارثية التي جاءت بها واقعة 8 شتنبر 2021، وقلنا أيضا إن الأخ الأمين العام الأستاذ عبد الإله ابن كيران، يقود هذا المسعى بكل جدارة واقتدار، ثم قلنا ثالثا إن المطلوب من قادة وأعضاء الحزب الوقوف إلى جانب أمينهم العام والانطلاق إلى ساحات النضال على مختلف الأصعدة، بما يجعل من استعادة المبادرة واقعا لا أملا.
وفي خضم الاستعداد للمؤتمر الوطني التاسع، وتجدد النقاش بخصوص مطلب “استعادة المبادرة”، وظهور بعض الأفكار التي تشوش عليه أو تلقي بضباب كثيف يحجب الرؤية أو يهوي بالعقول إلى غياهب جدل غير مطلوب، أو يصادر على الأسئلة الحقيقية، أو يسهم في تغيير بوصلة الاتجاه الواضحة، وجب، غيرة على الحزب وحبا له، الإشارة إلى ما يلي:
أولا، يربط بعضهم “استعادة المبادرة” بمطلب تشبيب القيادة أو تغييرها، والتشبيب والتغيير هنا وجهان لعملة واحدة، عنوانها “الاستبدال” وليس التجديد، لأن الحديث عن انتخاب قيادة جديدة لا يعني استبدال القديمة، بل يعني عملة انتخاب ديمقراطي تفرز قيادة منتخبة بأفق جديد يبني على التراكم، وقد تكون القيادة المنتخبة هي نفسها القديمة وقد لا تكون، غير أنه لا يمكن بحال حصر التجديد هنا بالتغيير الدال على الاستبدال.
وأما مطلب التشبيب، فقد يكون بحسن نية وقد يكون بسوئها، وحديثنا اليوم عن الصنف الأول، أما الثاني، فالمقصود مَن له حسابات –نفسية أو واقعية- مع القيادة القديمة أو بعضها، ويَرفع هذا المطلب لأجل ازاحتها عن المشهد لا غير. وهذا لا نتكلم عنه.
فالتشبيب الطبيعي عملية سياسية تنطلق من أسفل إلى أعلى، حيث تبرز بعض الأسماء الشابة ذات القدرة التحليلية/القيادية والتي يجري انتخابها للارتقاء في سلم القيادة، سواء في الأمانة العامة للحزب أو في هيئات موازية، ولذلك لا يمكن بحال الاعتقاد أن خلاص الحزب واستعادته لمكانته مرهون بمدى تحقيق هذا الشرط أو المطلب، أي “التشبيب”.
ذلك أن التنظيم السياسي الحقيقي لا ينظر في إيلاء المهام والمسؤوليات والقيادة بناء على عناصر غير عادلة؛ من قبيل الرجولة أو الأنوثة أو الشباب أو الكهولة أو العرق أو اللون أو الانتماء الجغرافي، وإلا حَكم على نفسه بالفناء، إذ أن المعيار الوحيد الذي يَحكم الاختيار للقيادة هو “الكفاءة” و”القدرة على الارتقاء بالتنظيم”، بصرف النظر عن العوامل “غير العادلة” المذكورة آنفا.
وهنا، لابد من الإشارة إلى أن التنظيمات السياسية الحية والديمقراطية، لا بد لها من قوانين تحكم مدة انتداب القيادة، والتي في الغالب الأعم يتم حصرها في ولايتين متتاليتين، غير أن هذه القوانين ليست أوامر سماوية منزلة لا تقبل الاستثناء أو التغيير، بل إن العقل السياسي الحي والمتفاعل بوعي مع التغييرات الخارجية أو الداخلية، وجب أن يسمح لنفسه بمرونة “استثنائية”، تلغي أو تغير أو تقيد هذا التقليد، وإلا استحالت العملية الديمقراطية و”مدة الانتداب” إلى وسيلة إضعاف للتنظيم عوض أو تكون أداة لتقويته.
ومن شواهد ذلك، النقاش الذي شهده الحزب إبان مؤتمر 2017 بشأن الولاية الثالثة، حيث صادرت “القلة” حق الأكثرية في الحسم في هذا المطلب الذي كان محل جدل داخلي كبير بالحزب، فلم يُعط المؤتمر الوطني للحزب -وهو صاحب الكلمة الأولى أو الفصل- حق التصويت على هذا التغيير الذي كان مطلبا ملحا حينها، لمواجهة/التفاعل مع تطورات المشهد السياسي ببلادنا في تلك الفترة.
ومصادرة حق المؤتمر الوطني عمق من الأزمة الداخلية للحزب، وساهم في إفقاده “المبادرة”، والتي كان ملمح فقدانا الأول هو تحويل التحكم انتصار الحزب الكاسح إبان 2016 بقيادة الأستاذ ابن كيران إلى هزيمة داخلية، بسبب طبيعة الأسئلة والأجوبة التي طُرحت وقتئذ، وظهور ملامح التخلي عن النهج السياسي الذي وسم تدبير الحزب للمرحلة ما بين 2011 و2016، في التعامل مع العناصر الخارجية، القائم على التدافع ورفض التدخل في القرار الحزبي أو توجيهه، ومقاومة مخططات التحكم المستهدفة للتنظيم…
إن سؤال التشبيب في ارتباط باستعادة المبادرة، يستوجب الانتباه إلى أن المرحلة السابقة للحزب خلال ولايته الحكومية الثانية، شهدت بروز قيادات “شابة” في مختلف المؤسسات والهيئات المركزية والموازية، غير أنها اليوم، في غالبها الأعم، تفاعلت بسلبية كبيرة مع الموقع الجديد للحزب في المعارضة، ومع مسعى التحكم لإضعاف الحزب، فعوض الوعي بهذا المخطط ومجابهته، آثرت الانزواء والانسحاب، مما جعلها، بوعي أو بغيره، تُضعف التنظيم السياسي، عوض مقاومة مخططات الخصوم.
والأنكى أن ما تواجهه بلادنا من تحديات وما تقوم به الحكومة الحالية من إجراءات مخربة ومدمرة لأسس الأمة المغربية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، تستوجب من هؤلاء الشباب الانخراط القوى للقيام بالواجب الملقى على عاتقهم والأمانة المحمولة على الأكتاف، فكيف يستقيم أمام هذا الواقع المؤلم والماثل للعيان الاعتقاد بأن “التشبيب” هو مدخل رئيس من مداخل “استعادة المبادرة”؟ وهل ينتظر الشاب القيادي المنسحب أو الواضع نفسه في حالة “PAUSE” تغيير قيادة الحزب للعودة أم ينتظرون تحسن وضع الحزب الانتخابي أم وصول إشارات الرضى عن الحزب من جهات ما؟ وفي جميع الاحتمالات، هذا لا يصح بحال، ذلك أنها تتعارض منهجيا مع مقتضيات المرجعية الإسلامية، وسياسيا مع فكرة الإصلاح، وأخلاقيا مع التعاقد القائم بين الحزب والمجتمع.
إن التنظيم السياسي الحي، لا يضع العربة أمام الحصان، فلا يشترط الحزب “التشبيب” لأجل تحسن وضعه أو استعادته لقوته، بل يطرح أسئلة أخرى تقوم على “الفكرة”، أي من نحن وماذا نريد وبأي وسيلة؟ ثم يعقب ذلك طرح سؤال الشخص، أي من الأقدر والأجدر والأكفأ والأحق؟ حينها، وبصرف النظر عن سن الذي ترتضيه الأغلبية، شيخا كان أم شابا، سيكون الحزب في مساره الصحيح، وسيكون حقيقة في موقع المبادرة لا في مسار السعي لاستعادتها.
*المحجوب لال