story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

استدعاء ابن بطوطة للتشاور

ص ص

في زاوية منسية من خريطة العالم، هناك جزيرة خضراء تتأرجح بين أمواج المحيط الهندي، تُدعى سريلانكا.
لم تكن هذه الجزيرة لتحتل مساحة في الذاكرة المغربية لولا زيارة واحدة، ورحلة واحدة، وقلم واحد خطّها قبل قرون. أعني هنا رجالتنا الشهير، ابن بطوطة، القائل إن “السفر قطعة من العذاب”، لكنه اختار العذاب طوعًا ليكتشف عوالم جديدة.
لم يكن ابن بطوطة في تلك الرحلة مجرد رحّالة، بل كان سفيرًا للثقافة، وجسرًا للتواصل، وناقلًا لأخبار العوالم البعيدة. هكذا هو السفر، قراءة في الكتاب المنظور ومطالعة مباشرة لحياة الناس وتجديد لزوايا النظر ومصادر المعرفة.
يكفي أنني اكتشفت شخصيا خلال هذا السفر الذي يقودني رفقة مجموعة من الإعلاميين العرب إلى منطقة جنوب شرق آسيا، رحالة مصريا لم أسمع له من قبل، زار جل قارات العالم في النصف الأول من القرن العشرين، وخلف كتابات غزيرة، هو الرحالة محمد ثابت.. اعذروا جهلي!
وفيما تتعثر سريلانكا اليوم في أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يمكنك وأنت تزورها إلا أن تستعيد ذكرى ابن بطوطة كسفير أبدي نحول بلاد سيلان، به عرفنا أهلها قبل قرون، وبه يعرفوننا اليوم.
أن تزور سريلانكا اليوم يعني أن تكسر طبقات سميكة من التصورات والأفكار المسبقة عن بلد لا نذكره إلا مقترنا بحرب أو كارثة. ومعناه أيضا أن تحل بمختبر مفتوح على تجارب كثيفة، كأن الأقدار تريد لهذه الجزيرة أن تختبر كل تحديات ومخاطر وتهديدات كوكب الأرض.
تصلح سريلانكا لتكون مختبرا في أمور كثيرة منها كيف يمكن أن تكون الجغرافيا فرصة لا لعنة، وأن تتعلم من صراعات الآخرين كي تتجنبها، وتُبحر بعينين مفتوحتين نحو العالم، دون أن تغرق في تناقضاته.
وسريلانكا هي الأرض التي تحتضن أديانًا وأعراقًا وثقافات متشابكة، وتعرف جيدًا كيف يصبح التنوع سيفًا بحدين. بين البوذيين والمسلمين والهندوس والمسيحيين، تجري مياه من القلق، وتغلي صراعات تحت السطح.
الصراع الطويل بين الأغلبية السنهالية البوذية، والأقلية التاميلية الهندوسية كان له تأثير عميق على الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد. والحرب الأهلية التي دامت نحو 26 عاماً (1983-2009) استنزفت الموارد المالية والبشرية للدولة، وأضعفت المؤسسات العامة، وساهمت في تراجع التنمية الاقتصادية.
وبعد انتهاء الحرب، لم تُعالج القضايا الجوهرية المتعلقة بالمساواة العرقية والعدالة الانتقالية، مما خلق حالة من عدم الثقة بين مختلف المجتمعات العرقية والدينية، وأدى إلى توترات سياسية مستمرة. فحذاري من الاعتقاد أن تجربة الإنصاف والمصالحة غير المكتملة قد بنت بالفعل جدارا يفصلنا عن ماضي الانتهاكات الجسيمة.
وتُظهر التجربة السريلانكية بوضوح أن البعد الهوياتي يلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار أي نهوض سياسي أو اقتصادي. فالهويات القومية والدينية والعرقية لا يمكن تجاهلها أو تقليصها دون أن يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة.
شهدت هذه البلاد، من خلال تاريخها المعاصر، كيف أن الفشل في تشكيل “لحمة وطنية” متماسكة تحترم التنوع وتحتضن التعدد قد أدى إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
عندنا في المغرب، تتجاور المآذن والكنائس والمعابد، ويُرفع الأذان في المدينة التي تروي قصصًا عن تعايش الأمازيغ والعرب واليهود. لكن، هل يكفي أن تكون الذاكرة غنية لتضمن السلام؟
تعلمنا سريلانكا أن التنوع ليس ضمانًا للسلم، بل هو تحدٍّ يجب إدارته بحكمة. المغرب بحاجة إلى أن يتعلم من تجربة سريلانكا أن يحمي تنوعه، لا أن يكتفي بالاحتفاء به، وأن يجعل من اختلافه قوة، لا نقمة. وتعلمنا سريلانكا ايضاً أن نحذر من توظيف الاعداء لهذه الورقة الهوياتية. تلاعبهم بها تمهيدا للتلاعب بالبلاد كلها.
منفذ آخر يسمح بتسلل الأجندات المعادية من الخارج، هو الثقب الاقتصادي الذي تعتبر الديون أداة إحداثه في جدران الأوطان. فعندما وقعت سريلانكا في فخ الديون، كانت ترقص على حافة الهاوية. تضافرت الديون الصينية، العيون الهندية، والضغوط الأمريكية، لتقودها نحو انهيار اقتصادي.
والمغرب، الذي يسعى لتعزيز نموه الاقتصادي، يمكن أن يتعلم من هذه التجربة أن التسرع نحو الأموال السهلة، قد يُكلف البلاد سيادتها، وأن الاستثمار الحقيقي هو في البشر، وفي الأرض، وفي الاستدامة.
نحن بحاجة لأن ندرك أن الأزمات لا تُحلّ بالمزيد من الديون، بل برؤية واضحة تستثمر في الداخل، وتحافظ على استقلالية القرار.
لقد أدى اعتماد سريلانكا المفرط على قطاعات اقتصادية معينة مثل السياحة والصادرات الزراعية (كالشاي والمطاط)، إلى جعل الاقتصاد عرضة لصدمات خارجية. تضررت السياحة بشدة نتيجة هجمات الإرهاب والأزمات الصحية (مثل جائحة كوفيد-19)، مما أثر سلباً على موارد الدولة وعجّل بإفلاسها وهي اليوم في غرفة إنعاش صندوق النقد الدولي.
إلى جانب كل هذا، تعيش سريلانكا مأزقاً جيوسياسياً معقداً نتيجة موقعها في المحيط الهندي، مما يجعلها نقطة محورية في تنازع المصالح بين القوى الإقليمية والدولية الرئيسية، مثل الهند والصين والولايات المتحدة.
موقع سريلانكا يجعلها هدفاً للتنافس الجيوسياسي بين هذه القوى بسبب أهميتها في التحكم في المسارات البحرية الرئيسية وفي تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولكونها النقطة التي تطل مباشرة على المحيط إلى غابة القطب الجنوبي، انطلاقا من الساحل الجنوبي لآسيا|
يحلو لنا كثيرا في المغرب أن نصف أنفسنا بالجزيرة، متكئين في ذلك على عصا خلفها لنا عبد الله العروي. لكن هنا ليس في الأمر أية استعارة، بل يتعلق الأمر بجزيرة حقيقية، تعيش في عزلة مائية، إضافة إلى شيء يقترب مما يحملنا نحن المغاربة على اعتبار أنفسنا جزيرة، أي عزلة المحيط والموقع.
وكأنها تختبر وحدتها في محيط يعج بالأطماع والاضطرابات. تجد سريلانكا نفسها، بجغرافيتها الحساسة، في قلب تنافس جيوسياسي شرس، تتنازعها أطماع الصين والهند والولايات المتحدة. هذا الموقع، الذي كان يمكن أن يكون جسرًا للتواصل، أصبح معبرًا للأزمات.
فالجارة والأخت الكبرى، الهند، تعتبر سريلانكا جزءاً من نطاق نفوذها الطبيعي بسبب قربها الجغرافي والروابط التاريخية والثقافية بين البلدين. ولذلك، ترى أي نفوذ متزايد لقوى خارجية في سريلانكا، خاصة الصين، كتهديد لأمنها القومي. وتشعر الهند بالقلق من أن تصبح سريلانكا قاعدة بحرية أو نقطة انطلاق محتملة لأنشطة معادية.
بدورها تسعى الصين إلى تعزيز وجودها في المحيط الهندي ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وترى في سريلانكا شريكاً مهماً في هذا السياق. لقد استثمرت الصين بشكل كبير في البنية التحتية السريلانكية، مثل مرفأ هامبانتوتا وميناء كولومبو، بورت سيتي، ما يمنحها نفوذاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً.
جلبت هذه الاستثمارات الصينية الضخمة في سريلانكا فوائد اقتصادية، ولكنها أدت أيضاً إلى تراكم ديون كبيرة على الدولة السريلانكية لصالح الصين. وهذا ما يُعرف بـ “دبلوماسية الديون”، حيث تستخدم الصين الدين كوسيلة لزيادة نفوذها الجيوسياسي.
في حالة سريلانكا، أدى عجز الحكومة عن سداد بعض الديون إلى منح الصين حقوق إدارة مرفأ هامبانتوتا لمدة 99 عاماً، مما أثار مخاوف الهند والولايات المتحدة من تحول المرفأ إلى قاعدة عسكرية محتملة.
أما واشنطن، فتركز على احتواء النفوذ الصيني المتزايد في المحيط الهندي، وتعزيز الشراكات مع دول المنطقة، بما في ذلك سريلانكا. وترى في سريلانكا حليفاً محتملاً في الحفاظ على حرية الملاحة والأمن البحري في المنطقة.
هكذا تجد سريلانكا نفسها في موقف حرج يتطلب التوازن بين القوى الكبرى الثلاث: الهند والصين والولايات المتحدة.
من جهة، تحتاج سريلانكا إلى استثمارات الصين ومساعداتها التنموية للتعامل مع تحدياتها الاقتصادية، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تجاهل الهند بسبب الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية الوثيقة معها.
ومن جهة أخرى، تحاول سريلانكا الحفاظ على علاقة إيجابية مع الولايات المتحدة، سواء من خلال التعاون العسكري أو التجارة أو الدعم السياسي، خاصة في المحافل الدولية. وهذا يتطلب منها اتخاذ مواقف سياسية حساسة ومتوازنة لضمان عدم فقدان الدعم من أي من هذه القوى.
وسط هذا كله، يعود إلينا ابن بطوطة كطيف بعيد، كسفير لم يُنه مهمته بعد. أتى إلى هذه الجزيرة قبل أكثر من ستة قرون، وتواصل مع حكامها، وحصل منهم على رحلة حكاها بكل الإثارة الممكنة نحو الجبل الذي يقال انه يحمل أثر قدم جدنا آدم لحظة نزوله إلى الأرض… لكننا نسينا سريلانكا ونسينا معها ابن بطوطة.
لم يكن ابن بطوطة لم يكن رحالة فقط، كان حالمًا بوطن أكبر من الحدود، بشعوب تتلاقى على ضفاف الكلمة والمعرفة. واليوم تعد سريلانكا بأشياء كثيرة، أقلها خبرة ومعرفة أبنائها بأسواق كبيرة وواعدة، من أستراليا إلى الهند، مرورا بأندونيسيا وماليزيا وسنغافورة…
وبينما تتهافت كبرى قوى العالم على مواطئ أقدام في هذه الجزيرة الصغيرة، نواصل نحن إدراجها في هامش الهامش، وندير علاقتنا معها بواسطة سفيرنا في الهند، بينما تتواصل معنا هي بسفارتها في مصر أو إسبانيا…
حدّثنا من التقيناهم طيلة أسبوع من مواقع السياسة والفكر والاقتصاد من بين أبناء سريلانكا، عن صعوبة المأزق الذي يعيشونه وهم يحاولون الخروج من دائرة عدم الانحياز إلى الاشتباك مع هذا العالم وضبط عقارب ساعات قواه الكبرى على توقيت المصالح السريلانكية. وفي مثل هذه الحالات يكون لدولة صغيرة أو متوسطة مثل المغرب، حظوظ كبرى للتموقع والاستفادة من المنطقة الرمادية التي يخلفها تدافع الصفائح التكتونية للقوى الكبرى.
يكفي أنني وجدت العلم المغربي ضمن بضعة أعلام تزين خريطة العالم في مدخل ميناء هامبانتوتا، تشير إلى المرافئ التي يتطلع هذا الميناء للتواصل معها بقوة. بل ان المغرب يحصر بمينائين هما الدار البيضاء وطنجة.
وبينما يعيش العالم اليوم صراعات لا تنتهي، يبقى درس ابن بطوطة حاضرًا: “سافر لتعرف”. سافر لا لتبتعد، بل لتقترب من روح الآخر، من قلقه ومن فرحه، من جغرافيته وهويته.
لقد حان الوقت باستدعاء سفيرنا الأقدم على الإطلاق، ابن بطوطة الذي أتى الى سريلانكا فلم نعد اليها قط من بعده. علينا استدعاؤه للتشاور، سيخبرنا بالكثير، وسيفيدنا بكل تأكيد.