story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

احتجاجات جيل z وأزمة المشروع المجتمعي

ص ص

منذ بداية الاستقلال، والمغرب يعرف توترات اجتماعية وسياسية متكررة اتخذت أحيانًا شكل احتجاجات عارمة، وأحيانًا أخرى شكل عزوف سياسي أو مقاطعة انتخابية وأحيانا يتخذ شكل مواجهات صادمة. لكن هذه الظواهر، وإن اختلفت أشكالها وسياقاتها، تكاد تشترك في شيء واحد: أنها تكشف أزمة مجتمعية ممتدة تتجاوز لحظتها  الراهنة.

فإذا كانت الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة  أو بعض القرارات غير المقبولة أو أزمات  في قطاعات معينة غالبا هي الشرارات الأولى و الظاهرة للعديد من التوترات الاجتماعية ، إلا أن جذور الاحتجاجات  أعمق  وتعود إلى ما يمكن تسميته العجز البنيوي عن استكمال بناء كل المشاريع الوطنية التي رامت  صناعة المواطن، الفرد، الإنسان المغربي المنخرط في زمنه والفاعل في مجتمعه.

اليوم، مع بروز المنصات الرقمية العابرة للحدود facbook  Discord، TikTok، Instagram،   ظهر جيل جديد، هو في الحقيقة، يشبه كل الأجيال التي مرت بنفس المرحلة العمرية باستثناء كونه أول جيل نشأ بالكامل في ظل الثورة المعلوماتية الرقمية والإنترنت، ما جعله أكثر ارتباطًا بالعالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي فهو  الجيل المولود تقريبًا بين منتصف التسعينات وبداية العقد الثاني من الألفية، ويُعرف. بتميز أفراده بواقعية واضحة وحرص على الاستقرار المالي، والمغامرة مع اهتمام متزايد بالصحة النفسية والرفاهية الشخصية. كما يُعرفون بانفتاحهم على التنوع الثقافي والاجتماعي وقيم المساواة والشمول، إلى جانب وعي بيئي واهتمام بالاستدامة. بالإضافة إلى الميل إلى البحث عن المرونة وفرص ريادة الأعمال، ويُظهرون ولاءً أقل للمؤسسات التقليدية إذا لم تتوافق مع قيمهم. إجمالًا، يُمثل جيل زد جيلًا سريع التكيف، متصلًا بالعالم، يسعى للتوازن بين الطموح الشخصي والمسؤولية المجتمعية. أمام هذا الاستثناء الذي يميز هذا الجيل نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة من هذه الازمة حيث لم يعد الفضاء العمومي محليًا أو وطنيًا، بل صار مزيجًا من هويات وخطابات عالمية متداخلة.

إن ما نسميه بأزمة المشروع المجتمعي في المغرب يجد تفسيره في السؤال العريض الذي طرح عبر المسار الطويل الذي عبره المغرب دون أن يصل الى جواب منذ الاستقلال، وهو “أي مواطن نريد؟” سوال ظل معلقًا. فبين خيار التحديث السريع والانفتاح على العولمة، وخيار المحافظة على الهوية والقيم، لم يستطع المغرب أن ينتج نموذجًا تربويًا-اجتماعيًا متماسكًا. مما أدى إلى احتجاجات 1965 , 1981، 1990، 2011،2025، بالإضافة إلى العزوف انتخابي المزمن، الذي يفسر عادة بهشاشة الثقة في المؤسسات. رغم السيل العارم من الخطابات المطمئنة والمطمئنة وهي خطابات بنت سرديتها على مغالطة الاستثناء المغربي وهي مغالطة كبيرة وهشة ولا تحوز ما يكفي من الحجية لتكون خطابات مقبولة عدى كونها صالحة للتعبة الوطنية في بعض الأوقات أكثر من أي شيء آخر . ما يجعلنا نعتقد بأن جوهر الأزمة ليس اقتصاديًا فقط، بل في غياب مشروع لصناعة المواطن. أو على الأقل فشل المشروع الذي انبنى على الاستثمار في كل شيء الا في الانسان والمواطن.

إن الأجيال التي فتحت اعينها على الزمن الرقمي كجيل Z وغيرها من الأجيال التي ترعرعت في منصات العولمة الرقمية هي أجيال تعيش زمنًا مختلفًا عن الأجيال السابقة رغم أنها تشبه كل الأجيال في رفضها لسلطة الآباء والرغبة في بناء ذاتها وعوالمها بعيدا عن القلم الأحمر الذي يشهره الآباء. إن مطالبهم هي نفسها المطالب القديمة لكنهم يستعملون لغة تناسبهم وآليات لا قبل لنا بها نحن ما عاشوا زمن الفاخر والطباشير . لعل أهم ميزاتها سرعة التفاعل و الميل للتعبير الفردي، إنهم يعلنون موقفهم من الازمة العابرة للأجيال وهي أزمة ضعف الثقة في المؤسسات التقليدية. شخصيا لم أسمع بمنصة Discord إلا مع اندلاع شرارة الاحتجاجات الأخيرة لأكتشف أنها ليست مجرد فضاء للألعاب أو المحادثة، بل هي منصة لصناعة “مجتمعات افتراضية” تناقش السياسة والهوية. وكل القضايا التي تهم الشباب واقعه ومستقبله ميولاته واختيارات وطموحاته…

إن من بين أسباب الازمة التي يعيشها المغرب والمتعلقة بالانفلات الأمني ،وليس فقط الاحتجاج السلمي، يبقى في تقديري هو الاخفاق رسملة الإصلاحات التنموية، صحيح أنه و منذ حكومة التناوب، دخل المغرب مرحلة إصلاحات كبرى: إصلاح دستوري، مشاريع تنموية، استثمارات في البنية التحتية…لكن هذه الإنجازات لم تتحول إلى رأسمال مجتمعي داخلي لأنها اعتمدت على الرؤية التقنية لا الفكرية.

فالتقني يصلح العطب يعني “بريكولاج” مؤقت بينما العالم، أما السياسي المفكر فيعيد تصميم الآلة من جديد. لقد كان المغرب في حاجة إلى تعاقد حقيقي بدل توافقات ظرفية.

إن التحدي الراهن يجب تركيزه في استعادة الثقة فالأزمة المغربية اليوم في جوهرها أزمة ثقة: المواطن والدولة أولا مما سيؤدي ألى استعادة ثقة المواطن في السياسة ثانيا . والحل الممكن يبقى هو مشروع وطني استراتيجي في التعليم والصحة والعدالة؛ إعادة الاعتبار للسياسة؛ صرامة في تطبيق القانون.

قد يكون الهاجس الانتخابي حاضر  عند البعض في ما يحدث اليوم، لكن ما يجري في الحقيقة  ليس مجرد احتجاجات ظرفية مرتبطة بغلاء الأسعار بل هو أعمق من ذلك خاصة مع الانفلاتات التي تؤكد غياب تفهم بعض المغاربة لفكرة تملك الفضاء العام وسوء فهم الكثيرين لماهية الوطن وعدم تمييز فئات عريضة بين الدولة والوطن والحكومة ، إنه وجه جديد لأزمة قديمة: أزمة غياب مشروع مجتمعي قادر على صناعة المواطن المتوازن، المحصن، المنخرط في زمنه الكوني.

قد يكون الحل للخروج من الأزمة التي يعرفها المغرب اليوم أو ما يسميه البعض مأزق الانفلات الأمني بإقالة وزير أو إعفاء مسؤول أو حتى إقالة الحكومة بأكملها رغم استبعادي لهذا الخيار والإعلان عن حزمة إجراءات تصب في اتجاه الاستجابة للمطالب المرفوعة أو التعجيل بانتخابات سابقة لأوانها إلا أن الرهان الأكبر ليس على نتائج الانتخابات القادمة عادية أو سابقة لأوانها  ولا على مصير حكومة بعينها، بل على قدرة المغرب على: تحصين هويته، و رسملة إنجازاته التنموية، وبناء مواطن جديد متملك حقا وحقيقة لفكرة المشترك العمومي ومحتضنا لفكرة الوطن بما هو فضاء عام نملكه جميعا.

*عبدالاله ابعيصيص