story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

إلى الوزير مهدي بنسعيد

ص ص

نعود لموضوع مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة. نحتاج التأكيد، مرة أخرى، أن الموضوع يتجاوز شأناً صحافيا إلى علاقةٍ بالسلطة والمجتمع والديمقراطية، وما تريده الدولة بشأن حقّ المجتمع في إعلام مسؤول. وأيضا، ما يريده فاعلون في الصحافة والنشر من الصحافة.

تخريب الصحافة خطرٌ على الدولة أيضاً، وإهدارٌ لـ”الزمن الديمقراطي”، وإضرارٌ بالمجتمع. الأمر ليس “خلافاً” بين صحافيين، أو بين صحافيين و”باطرونا”، وإنما نقاشٌ في صلب الطموح الديمقراطي، والتطلّع إلى علاقة سويّة بين الصحافة والسلطة والمجتمع.

على هذا الأساس، نطرقُ باب السياسة بحثاً عن وضعية أكثر معقوليةً. دوماً، لم تكن القوانين وحدها مدخل الإصلاح. وفي المغرب، أغلب الوقت تميل أمزجة صنّاع القوانين ومنفّذيها نحو الانغلاق. وخذ عندك دستور 2011 الذي أُفرغ من كل طموحات الانفتاح فيه إلى المحافظة السياسية، في الممارسة والتأويل، من الدولة والفاعلين.

ولئن كان الميزان في سياق تعديل قانون المجلس الوطني للصحافة يميل نحو رؤى الانغلاق وإعادة عقارب “التنظيم الذاتي” إلى الوراء، يكون التبئير على مساحة السياسة ضرورةً.

فعلى قَدْر أهمية القانون، نلتفتُ أيضا إلى حقيقة الفاعلين الأساسيين في هذه المرحلة، فنستشعر خطراً ماثلاً وقادما للتضييق على الصحافة، وهذه المرة عبر تعديل القانون ليخدم مصالح فئة وتوجّهاً معيناً، يريد أن يؤسّس لسياقٍ جديد، يُفرغُ الصحافة من جوهرها إلى أن تصير “رَجْعَ صدى”.

المتحمّسون لمشروع القانون رقم 26.25 يمثلون، في الجوهر، زواجاً بين سلطة المال وقوى محافِظة، متخفّفة من أفكار الحرية والصحافة المستقلة والمهنية. وزواج المال والمحافَظَة السياسية، في اعتقادي، “أسوأُ خَلْطة” للإضرار بأي تطلّع نحو التأسيس لوطن الحريات، ومن جملتها حرية الصحافة.

وكاتب هذه السطور من المقتنعين بأن “أسوأ تشريع” يمكن أن يتحوّل، بين يَدَيْ فاعلين منفتحين وديمقراطيين، إلى فرصة. وبالمثل، أكثر القوانين انفتاحا و”ديمقراطية” قد تتحول مع فاعلين منغلقين إلى هَدْر تشريعي. والمفزعُ أن نكون أمام قانون سيّء، وفاعلين منغلقين بطموح الهيمنة على القطاع. وتلك “خَلْطة” أخرى لا تقلّ خطورة.

المشغولون برقم المعاملات في الممارسة الصحافية، وحصص التمثيل في مجلس المجلس الوطني للصحافة، وبتوسيع صلاحيات “التأديب” على حساب حماية حرية الصحافة، لا يهمّهم أن تتحول المؤسسات الصحافية إلى ما يشبه وكالات العلاقات العامة، ورؤساء التحرير إلى مستشارين إعلاميين، والصحافيين إلى محرّري بلاغات ومراسلات تصل إلى الإيميلات بصيغة واحدة. لن ينتبهوا إلى أنّهم يمهّدون لإنهاء تراكمٍ طويلٍ من الصحافة المستقلة في بلدنا، التي تقف وتتعثّر، تصيب وتخطئ، لكنها تجتهد لتساهم في القيام بواجب إخبار المجتمع، وفي النهوض بدور “السلطة الرابعة” المجاوِرة والمنازِعة والمراقِبة والمرافِقة لباقي السلط، على قاعدة الاستقلال المهني. والدول “العاقلة” تحتاج باستمرار إلى أدوات تنبيه للاختلالات، والصحافة إحدى هذه الأدوات الفعّالة.

المشغولون بـ”تطهير الصحافة من الصحافة” لن يتقدّموا بنا قَيْدَ أنملة على طريق حرية الصحافة، ماداموا يَصْدُرون عن رؤية منغلقة، وقد حوّلوا صفحات جرائدهم، وروابط مواقعهم، والصوت المنقول عبر أثيرهم، والصور المتحركة المبثوثة للجمهور عبر قنواتهم، إلى أدواتٍ للتسلّط والتشهير، موظِّفين سلطة الإعلام لإطلاق النار على كل ما يتحرّك في البلد على غير هوى السلطة.

ولئن كان هذا المقالُ يُحاسب توجّهاً يريد الآن أن يضع يدَه على رقبة الصحافة، فإنه لن يتردّد في القول إنّ من كانوا فاعلين سابقاً لهم “مساهمات” في كل التعثّر والاستعصاء الحالي، وقد تحوّل الدعم العمومي طريقَ اغتناء، وحقوق الصحافيين المهضومة سبيلاً للانتفاع، وبعضهم عقَد المزادات لمن يدفع أكثر لشراء القلم. الموقف الآن يتعامل مع خطرٍ ماثلٍ، لكنه لا يمنح “صكّ براءة” لأحد ممن ساهموا في التأسيس للعبث، وبعضهم مكّنوا للانسداد، بالصمت في قضايا مهمة وقتما وجبَ الكلام، وقبِلوا تسويّاتٍ مضرّة بالصحافة، حتى إذا استعصت التسويات معهم الآن يجدون أنفسهم خارج “عَرَبة السلطة” و”قِطار الانتفاع”.

عندما تكون البوصلةُ هي حرية الصحافة والممارسة المهنية لن نتيه، وسيكون القانون تفصيلا مهمّا على هامش هذا الاقتناع الصميم. لكن حين تتقلّب الصحافةُ في أفْرِشَة مركّبات المصالح، وأهواء السلطوية، والنّفعية الشخصية، تكون التكاليف باهظةً على الجميع. لهذا نسأل مع السائلين عن الكُلَفِ التي سندفعها في المرحلة التي ستلي إقرار مشروع القانون الحالي بصيغته الرديئة.

يجب أن نؤكد بكل وضوح: إضعاف الصحافة و”بيعها للرأسمال” خطر. في زمن التدفق الهائل للمعلومة، وشبكات التواصل، يصعب محاصرة التعبير. في الدول غير الديمقراطية أو المتعثرة ديمقراطياً، تنتعش القنوات الخلفية.

إضعاف الصحافة والتعامل معها بمنطق “كشوف الحساب” ورقم المعاملات، بعيدا عن منطق الشريك المسؤول والمستقل في الطريق إلى الديمقراطية، يجعلها خارج وظيفة إدارة المفاوضة المجتمعية، بما ينقل حقّ المجتمع في التعبير إلى مساحات منفلتة، وبعضها عابرٌ للحدود. ودعكَ من أزعومات “الوطنية” لدى البعض في زمنٍ أصبح فيه الاختراق أسهل ممّا كان.

انتعاش تعبيراتٍ مجتمعية “غير منضبطة”، تتقاطع مع وظيفة الصحافة دون أن تحلّ محلّها ولا تنضبط لمعاييرها، نتيجةٌ حتمية لإغلاق المجال داخلياً، لذا نرصد “استهلاكاً” متنامياً من المغاربة لـ”أخبار” ما يجري في بلدهم من خارجه، أولا عبر مغاربة في الخارج يستعملون وسائل التواصل لإغراق المشهد بالمحتوى المفتقد للدقة، وأساسا المسؤولية، ولا يتورّع عن قول أي شيء للإيذاء. وثانيا، من خلال صحافة دولية غير معنية بأولويات المغرب ولا استقراره، وتخدم أجندات جهات خارجية، بعضها معادٍ، ضمن صراعات أشمل وأكثر تعقيدا، يمكن أن تعبث بالاستقرار الداخلي، وتشتغل لغرس تناقضات “مستوردة”، قد يجري توقيتها للانفجار في مرحلة لاحقة.

وعليه، أُصاب بالدهشة حين أرصد خطاب “باطرونا” مُهَيمنة لا يتحدث إلى الصحافيين، ضمن الهندسة الجديدة للمصالح، إلا من مدخلِ “الخبز”. للحقوق المادية أهميتها، لكنها لن تتجاوز حدود “الرشوة الجماعية” حين يقفز الاهتمام على “قُطب الرحى” في الصحافة. الصحافة حريّةٌ، وكل خطاب يتجاوز هذا المحدد شرودٌ. لهذا لا يُستغرب أن يُحذف من مشروع القانون المطروح أية إشارة إلى مهمة المجلس الوطني للصحافة في رصد الانتهاكات.

أسعدُ بكل مكسبٍ ماديّ ينتزعه الصحافيون من الباطرونا، وباقي المشغّلين المؤسساتيين الرسميين، لكنني أتوقّع انحيازاً أوضحَ في قضية الحرية، صوناً للمهنة، وهذا انشغالي الأساس، وصوناً حتى للدولة/ الوطن من الإضعاف، متقاطعاً هنا مع من يعتقد أنه يقوم بـ”مهمة مقدّسة” لصالح الدولة. الصحافي لا يعيش بالخبز وحده.

وإن كان الدعم، وبكافة أشكاله، في الدول المحترمة، يهدف لغرض حفظ التعددية، ضمن خدمة المجتمع، فإن البعض يريد من خلاله القضاء على التعددية، التي تبقى في جوهرها عنوانا للحريّة.

بعد أن نلتقي في أرض الدفاع عن حرية الصحافة، ونجد مساحةً مشتركة لهذا الانشغال الذي لا صحافةَ دونَهُ، يحقّ أن نختلف، ولن يُفزِعنا أن نختلف، مادمت هذه المهنة “معجونةً بماء الاختلاف”، ويجب أن تبقى كذلك، ومادامت كل الأفكار تُطرحُ تحت ضوء الشمس، ولا يحتاج معها المجتمع إلى تهريب نقاشاته وما يعتمل فيه إلى قنوات خلفية مسمومة.

قصارى القول

أما وقد علّق وزراء تعاقبوا على قطاع الاتصال، وخبراء في الإعلام، وصحافيون وكتابٌ وأصحاب رأي، وغيرهم، للتنبيه إلى اختلالات واضحة في مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة وبشأن منهجية اعتماده، يكون واجباً التوقّف. كلام وزير التواصل محمد مهدي بنسعيد، داخل لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، عن “المنهجية التشاركية” بلا معنى، أمام كل هذا المدّ من الانتقاد. تمرير القانون بصيغته سيكون خطأً، والأسوأ يتجاوز القانون في ذاته إلى عقلية مهووسة بـ”الضبط” يمهّد القانون لاستئسادها على القطاع.

السيد الوزير محمد مهدي بنسعيد، لم يتأخر الوقت، لكن سنتأخر كثيرا إذا جرى تمرير مشروع القانون في هذا الجو المفتقد للتوافق. لن يخسر أحدٌ بالحوار والتعقّل، لكن سيخسر المغرب بالتغوّل وشهوة “كسر باب” القانون عُنوَةً لفرض التشريع لصالح الفئة، وقتما يجب التشريع للمصلحة العامة، إذ يجب أن تكون الحكومة والوزير في خدمة الجميع، وليس في خدمة طرف أو تيّار أو جناح.

السيد الوزير، قصائدُ المدح لا تُدخِل الممدوحَ التاريخ دوماً، خاصة إنْ كان “الشعرُ” ردئياً.