story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إضراب من أجل الإضراب

ص ص

يفترض أننا هذا اليوم في إضراب عام دعت إليه العديد من المركزيات النقابية والهيئات السياسية.

معطى سيتلقاه البعض ممن عاشوا حقبة الثمانينيات والتسعينيات كما لو كان ضربا من النكتة السمجة، ففي زمنهم كان إعلان الإضراب العام أكثر وقعا على الدولة من إعلان الحرب عليها من طرف عدوّ أجنبي أو العيصان المدني داخليا.

كان الوجوم يخيّم على الفضاء العام، وكانت الدولة تبذل كل ما في وسعها لإفشال الدعوة إلى الإضراب العام، وتعمد إلى خطوات قمعية من قبيل الاعتقالات والتدخلات العنيفة ضد القادة والمنظّمين، حتى إذا حلّ يوم الإضراب كانت الشوارع أشبه بساحة حرب.

كانت عناصر أمنية وعسكرية وشبه عسكرية تبسط سيطرتها على وسائل النقل العمومي، وتعزيزات مكثفة تتمركز في النقط الحيوية من المدن، بينما تغلق المحلات التجارية أبوابها، استجابة لنداء الإضراب أحيانا وخوفا من أعمال العنف أخرى.

اليوم، وقبل أن أجلس لكتابة هذه السطور في وسط العاصمة، المدينة الإدارية بامتياز، لا شيء يوحي بأننا في بداية يوم بدون عمل.

السيارات تملأ الشوارع، وهي عربات تقلّ موظفي و/أطر الإدارات بطبيعة الحال، وأصوات المنبهات ترتفع قبل أن يكتمل شروق الشمس، والمقاهي والمحلات التجارية تباشر استعداداتها من أجل فتح أبوابها.

لا أقصد هنا التقليل من قيمة الإضراب المعلن، فهو من الناحية المبدئية ناجح بصرف النظر عن نسبة المشاركة فيه، لكونه حصل على مباركة عدد كبير من الهيئات النقابية والسياسية والحقوقية، وحقّق جبهة لم نكن إلى وقت قريب نعتبرها ممكنة في ظل الهيمنة التي تفرضها مراكز القوة والنفوذ بمعانيهما السياسية والاقتصادية.

المقصود هنا تحديدا هو تسجيل هذا التحوّل الذي عرفته علاقة الدولة بالمجتمع. فردّة الفعل القوية والعنيفة التي كانت الدولة تقوم بها في السابق لا تعود إلى الخوف من تحوّل الإضراب إلى انفلات أمني. لا، هذه مجرّد ذريعة كانت السلطات تبرّر بها تدخلها العنيف لكسر الإضراب، خاصة عندما يكون عاما، أي ليس قطاعيا.

التحوّل هو أن الدولة كانت تخشى بروز شرعية مضادة، أو منافسة، أو غير مطابقة لشرعيتها. وكان شلل الإدارات والمنشآت الإنتاجية، وجمود الفضاء العام، يعني أن هناك مجتمع يستطيع أن يقول لا للدولة، وينازعها في فرض إيقاع الحياة ولو ليوم واحد أو يومين أو ثلاثة.

أما اليوم، فالواضح أن الدولة لم تعد تخشى بروز هذه الشرعية المضادة من قلب المجتمع، ليس لأنها خضعت للتطوير والتحديث واكتسبت شرعية لا يهددها يوم إضراب، بل لأن المجتمع ضعُف، واستنزف، وتشتّت قواه، ولم تعد نداءاته، خاصة عندما تصدر عن الإطارات الكلاسيكية التي خبرتها الدولة وأحكمت قبضتها عليها من الداخل والخارج، تثير أي قلق عند مراكز القوة والنفوذ المتمكّنة من مفاصل الدولة.

يقال إن إضراب اليوم مرتبط بعوامل كثيرة على رأسها مشروع القانون التنظيمي المنظم لممارسة الإضراب، والذي ينتظر أن يصادق عليه مجلس النواب في قراءة ثانية، للصدفة العجيبة، هذا اليوم الذي دعي فيه للإضراب.

ولنسجّل أن العلاقة بين العمال والمُشغّلين غير متكافئة بطبيعتها، حيث يتمتع أرباب العمل عادة بسلطة اقتصادية وإدارية تمنحهم قدرة أكبر على فرض شروط العمل، مما قد يؤدي إلى استغلال العمال في غياب آليات تضمن التوازن والعدالة.

ولتفادي تحول هذه العلاقة إلى خضوع أو استعباد اقتصادي، يحتاج العمال إلى أدوات قانونية وتنظيمية تمكّنهم من الدفاع عن حقوقهم والمطالبة بظروف عمل عادلة، ومن بين هذه الأدوات الإضراب، الذي يُشكل حقا أساسيا في النضال الاجتماعي.

فالإضراب ليس وسيلة للضغط على أرباب العمل فقط، بل هو آلية ديمقراطية تُعيد التوازن لهذه العلاقة عبر تمكين العمال من التفاوض على قدم المساواة، وضمان عدم تغوّل السلطة الاقتصادية للمُشغّلين على الحقوق الاجتماعية والمكتسبات النقابية.

من هذا المنطلق، فإن أي تنظيم قانوني لحق الإضراب ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الوظيفة الأساسية، وألا يكون وسيلة لتكبيله أو تفريغه من مضمونه، لأن ذلك قد يؤدي إلى تكريس علاقات عمل غير عادلة، تعزز الهيمنة بدل تحقيق التوازن المنشود.

وبعيدا عن دغدغة المشاعر وركوب الأمواج وترديد ما نريد جميعا سماعه من عبارات جلد الدولة والحكومة والفئات المهيمنة، لنعترف بكل موضوعية أن الحقبة الحالية، بالنسبة للدولة، هي الأنسب في تاريخ المغرب منذ الاستقلال، لتمرير مثل هذا القانون.

لقد عجزت الدولة عن إصدار هذا التشريع على مدى عقود، لأنه لا يمكن إلا أن يعبّر عن ميزان القوة بينها وبين المجتمع، ولا توجد حقبة في تاريخنا المعاصر كانت فيها الدولة في مثل هذا الوضع المريح من حيث السيطرة وفرض الإملاءات، دون أدنى خوف من ردود الفعل.

كانت هناك سنوات للرصاص والقمع والاعتقالات والاختطافات… لكن كان هناك أيضا نبض للمجتمع، تعبّر عنه معارضة سياسية قد نتّفق أو نختلف مع مواقفها واختياراتها، لكنها كانت تحقق توازنا ضروريا مع الدولة. حتى أن البعض يروي كيف كان الملك الراحل، الحسن الثاني، يحرص على استمرار هذا التوازن بالقدر نفسه الذي كان يعمل به على قص أجنحة معارضيه واقتلاع أظافرهم من الجذور.

نعم، مشروع القانون التنظيمي ينطوي على مآخذ كثيرة، مثل كيفية تعريفه لحق الإضراب، والشروط التي وضعها أمام العمّال لممارسة هذا الحق، والعقوبات (أو الجزاءات) التي تضمّنها ولا يستبعد أن تؤدى إلى زجر ممارسي حق دستوري صريح هو الإضراب… وهناك أيضا قائمة طويلة من الأسباب التي تدفعنا إلى الغضب والاحتجاج، من ممارسات فاسدة وجمع للمال عبر السلطة وإطلاق لعنان السوق بمعناه المتوحّش…

لكن علينا أن نتحلي أيضا بفضيلة الاعتراف بأننا مسؤولون أيضا، كمجتمع، عن هذه الأوضاع. وخطابنا حول مشروع القانون التنظيمي للإضراب نفسه يحمل قدرا كبيرا من السلبية والطلب على الأبوية، واستجداء الرحمة، والإصرار على إطارات مؤسساتية لم يعد ميزان القوة يبرّرها مثل المطالبة بالتفاوض عبر “الحوار الاجتماعي”.

في انتظار رأي المحكمة الدستورية في القانون الذي لم يجد من يوفّر له ميزان قوى مناسب، فليستمتع المشاركون في إضراب اليوم، بموعد قد يكون هو الأخير مع الإضراب قبل “تأميمه”.

لقد فرّطنا يا إخوتي، ولابد لنا أن “نكرّط”.

إضراب عام سعيد!