story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

إضاءات حول هيئة أخلاقيات الصحافة قبل الزمن الرقمي

ص ص

بعد مرور 22 سنة على تأسيس ” الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير”، وأزيد عقدين من الزمن، على ” توقف” أو ” جمود” هذه التجربة الفريدة، خرج رئيس هذه الهيئة الأستاذ الجامعي الادريسي العلمي المشيشي وزير العدل الأسبق، ولأول مرة على ما يبدو، ليذكر في دقائق معدودات بهذا التنظيم الإعلامي، وذلك خلال استضافته في برنامج “ضفاف الفنجان” الذي يقدم على المنصة الإعلامية لصحيفة “صوت المغرب”.

وفي معرض رده على سؤال لصاحب البرنامج الصحافي يونس مسكين حول ” الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير”، أقر الأستاذ المشيشي المدير الأسبق للمعهد العالي للإعلام والاتصال، بأن هذه التجربة كانت ثمرة مسار طويل من النقاش والتواصل خلال أواسط تسعينات القرن الماضي، وأنها مبادرة خالصة للنقابة الوطنية للصحافة المغربية.

وبخصوص اشرافه على هذه الهيئة، قال ” لقد فوجئت بانتخابي رئيسا لها”، بعد لقاءات ونقاشات، توجت بإعداد نظام أساسي وتعيين المسؤولين بها، موضحا أن هذا الاطار يعد ” هيئة منظمة لكنها حرة، وهو ما جعلها، بمثابة تنظيم ذاتي وفوق ذاتي…

” وقال ” بالفعل اشتغلت هذه الهيئة مدة من الزمن، لكن ليس بالكثافة المرجوة حول عدد من الملفات المهمة جدا، وكان أعضاؤها في البداية متحمسين. غير أنه مع مرور الأيام، بدأ هذا الحماس يعرف فتورا” على حد قوله، وأضاف في السياق ذاته “حتى أصبحنا ثلاثة أفراد فقط بها، وهو ما جعلني، أتوقف عن تنظيم اجتماعاتها، رغم أنني لم أقم بتوقيفها رسميا، مع العلم كنت أريد أن يكون المجلس الوطني للصحافة بديلا لها “.

نقطة نظام

لكن غاب عن الأستاذ المشيشى – ربما بحكم مرور زمن طويل، وانشغاله بقضايا أخرى خاصة تلك المتعلقة بالقضاء والقانون- أن أحد عوامل” تعثر عمل الهيئة” كان طرح مشروع ” المجلس الوطني للصحافة” سنة 2007، وعدم تمكن الهيئة في لحظات كثيرة من عقد اجتماعاتها لعدم توفير النصاب القانوني لاجتماعاتها، بسبب الغياب المستمر لممثلي فيدرالية الناشرين أحد مكوناتها الأساسية علاوة على عدم توفرها على أي دعم لوجستي يمكنها من القيام بعملها.

الخروج الإعلامي لرئيس الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، يجعل من المفيد تمثل واستحضار هذه التجربة التي كانت تهدف إلى المساهمة في تطوير وتجويد الأداء الإعلامي وتوجيهه لصالح الجمهور المتلقي، وضمان حق المواطن في الخبر الصادق النزيه، واحترام الكرامة الإنسانية، فضلا عن العمل على إشاعة أكبر لأخلاقيات وآداب مهنة الصحافة وتكريس حرية التعبير والرأي.

“الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير” التي كان تشكيلها إحدى التوصيات الرئيسة لمؤتمر نقابة الصحافة سنة 2000، تجربة مغربية مستقلة في التنظيم الذاتي للصحافة، شكل إحداثها في 19 يوليوز 2002، حدثا وطنيا بامتياز كان ثمرة نقاش واسع استغرق ما يربو عن سنتين بين كافة الأطراف التي لها علاقة بإشكاليات الصحافة وأخلاقياتها وقضايا حرية التعبير.

الإعلام النزيه

كما شكل الإعلان عن تأسيس هذه الهيئة في حينه تعبيرا عن قناعة الصحافيين ووعيهم الإرادي المستقل، بأن حرية الصحافة وحماية حرية التعبير والحفاظ على شرف المهنة والدفاع عن حق الجمهور في الإعلام النزيه، وحماية الصحافيين أثناء مزاولة المهنة، تعد ركائز جوهرية يؤمنون بها ويتمسكون بتطبيقها. كما اعتبر تأسيس الهيئة، تقدما نحو معالجة مسألة أخلاقيات الصحافة بطريقة أكثر نجاعة، و بالموازاة مع ذلك معالجة قضايا الصحافيين انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على احترامها، دون إتاحة الفرصة لأطراف أخرى خارج المهنة لتبرير توجهات وممارسات تتناقض مع مبادئ حرية التعبير.

وإذا كانت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، قد ركزت منذ تأسيسها في يناير 1963، على الدفاع عن حرية التعبير والرأي والصحافة عموما، فإن انشغالها بأخلاقيات المهنة، لم يبرز جليا إلا سنة 1993 مع انتخاب المرحوم محمد العربي المساري ( 1936 و 2015)، كاتبا عاما للنقابة خلفا لمحمد اليازغي. فقد كان هذا الانشغال يتكرس شيئا فشيئا ليواكب سياقات سياسية واجتماعية وتغيرات في اهتمامات الجسم الصحفي، ومنها أخلاقيات الصحافة. ويعود الفضل إلى المساري في إطلاق هذا المسار، حيث كانت نقابة الصحافة، سباقة إلى إثارة العديد من المشاكل الناجمة عن خرق أخلاقيات المهنة من لدن ما كان يسمى بـ”الصحافة الصفراء” التي كانت تستهدف الحياة الخاصة للأفراد خصوصا المحسوبين على المعارضة آنذاك.

ميثاق شرف

ففي مارس 1993 بادرت النقابة الوطنية للصحافة إلى إنشاء “لجنة أداب المهنة” بعضوية شخصيات إعلامية وزانة منها المهدي بنونة (1919 – 2010) مؤسس وكالة المغرب العربي للأنباء قبل تأميمها، ومحمد العربي الخطابي (1929 – 2008) وزير الإعلام الأسبق ومصطفى اليزناسني، -( 1939 – 2019 ) مدير جريدة “المغرب”، لتسهر على إعمال ميثاق شرف، ( وليس ترف )، يتضمن تسعة بنود، مستمدة من المبادئ الكونية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، ومن مقومات العمل الصحفي الهادف إلى الإخبار الصادق والنزيه والموضوعي والملتزم بواجب التضامن المهني أيضا.

وسيتكرس هذا المنحى بعدما قررت نقابة الصحافة خلال جمعها العام الثالث سنة 1996، المنعقد تحت شعار “احترام أخلاق المهنة وتحسين أوضاع الصحفيين، شرط للنهوض بالصحافة”، إحداث لجنة ضمن لجانها الدائمة تعني بأخلاقيات مهنة الصحافة، تركز عملها آنذاك على التنبيه والتحسيس ودراسة والرد على الشكاوى والتظلمات التي تتوصل بها، حول ما يعتبر ممارسات مخلة بشرف المهنة.

وتوج هذا المسار الطويل الذي تخلله نقاش عمومي وتنظيم تظاهرات ولقاءات وطنية ودولية بهدف البحث عن الآلية الكفيلة بالتعاطي مع هذا الموضوع الشائك والمعقد، حيث توج هذا المسار، بتأسيس الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير وأخلاقيات المهنة سنة 2002، وذلك بناء على توصية من المؤتمر الرابع للنقابة الوطنية للصحافة المغربية المنعقد سنة 2000، وهي المبادرة التي شكلت في حينها حدثا بارزا في تاريخ الصحافة المغربية والعربية والإفريقية، بالنظر لأهمية إحداث إطار مستقل من هذا النوع لحماية الصحافة والصحفيين، يكون قادرا من جهة على المساهمة في تطوير الأداء المهني، والدفاع في نفس الوقت عن حرية التعبير، على اعتبار أن أخلاقيات مهنة الصحافة وحرية التعبير وجهان لعملة واحدة ولا تناقض بينهما.

أخلاقيات وحرية

وشكل تأسيس هذا الإطار المدني، مرحلة متطورة في مجال أخلاقيات المهنة على المستوى الوطني. كما اعتبرته كافة الفعاليات في حينه، تقدما نحو معالجة هذه المسألة بطريقة أكثر نجاعة، تستلهم تجارب الدول الديمقراطية، وتتوجه باستقلالية نحو معالجة قضايا الصحافيين، انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على وضعها واحترامها في نفس الوقت، ودون إتاحة الفرصة لأطراف خارج المهنة، لإيجاد تبريرات وتوجهات تتناقض مع مبادئ حرية التعبير.

غير أن تشكيل هذه الهيئة التي تم تنصيب أعضائها في 19 يوليوز 2002 بأحد فنادق مدينة الرباط لم يكن يسيرا، بل تطلب تأسيسها جهدا ووقتا طويلين ونقاشا عميقا ومسؤولا، وفرضه طموح الصحافيين المهنيين لتأسيس إطار مستقل، يختاره الصحفيون بطواعية، على أساس أن تمثل فيه الهيئات الحقوقية الأكثر تمثيلية وحضورا ومصداقية لدى الرأي العام، لأن معالجة قضايا أخلاقيات الصحافة، مسؤولية مشتركة.

وإذا كانت الوظيفة الأساسية للهيئة تتمثل – كما هو محدد في ميثاقها- في رصد الاختلالات المهنية، وتقويم الأداء المهني، والتصدي التلقائي في نفس الوقت للانتهاكات التي تطال كلا من حرية الصحافة والتعبير، فان آراءها وقراراتها، كانت تكتسي، قيمة اعتبارية استمدتها من الثقة ومن الإجماع اللذين يحظى بهما أعضاؤها من طرف المهنيين والفاعلين والرأي العام.

حق الجمهور

وإجمالا فإن الهيئة تتوفر على دورين رئيسيين: حمائي وجزائي، ويتمثل الدور الأول في حماية وتمنيع وتحصين الأداء المهني، فيما يتعلق الثاني (الجزائي)، برد الاعتبار للمستهدفين بكل تصرف مخل بأخلاقيات وآداب المهنة، مع تعهد الصحافيين، بناء على ذلك بمزاولة مهنتهم بكامل الدقة والموضوعية، والالتزام بحق الجمهور في الاطلاع على مختلف الأحداث والحقائق والآراء، بالمقابل ضمان حق الصحافة والصحافيين في الوصول الى مصادر الأخبار والحق في الحصول على المعلومات ومعالجتها بحرية، وتداولها وبثها بدون إكراه وعراقيل.

وإذا كان النظام الأساسي للهيئة وميثاقها، يؤكدان من جهة أخرى على أن الهيئة، ليست بديلا عن القضاء، كما أن القضاء لا يلغي ولا يحد من صلاحياتها، بوصفها إطارا مستقلا بذاته، فإن هذا الميثاق، يشدد على أنها غير تابعة لأية جهة سياسية أو حزبية، ولا لأية وصاية حكومية أو طرف من أي جهة كانت.

ويستند عمل الهيئة على ميثاق للأخلاقيات جاء في ديباجته بأنه يستمد مقوماته من المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، ومن بنود الدستور الذي ينص على حرية التعبير والرأي، ومن خلاله تجدد الصحافة المغربية، إرادتها الراسخة والتزامها بمواصلة العمل من أجل تعزيز حرية الرأي والتعبير، وإقرار حق المواطن في إعلام تعددي حر ونزيه، قائم على قواعد احترافية عصرية، كشروط لبناء حياة ديمقراطية مستقرة.

هيكلة ومصداقية

وبخصوص هيكلة الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، التي تمت وفق عملية انتخاب ديمقراطي لأعضاء مكتبها، فقد كانت تتألف من 23 عضوا منهم شخصيات مستقلة وممثلون عن الهيئات الصحافية والمنظمات الحقوقية والثقافية والمجتمع المدني. وتيسرا لعملها جرى تأسيس جمعية هيئة مساندة الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير التي انتخبت المرحوم الأستاذ الطيب لزرق المحامي بهيئة الرباط رئيسا لها والذي اضطلع بدور أساسي في هذه التجربة، ووضعت ملفها القانوني لدى السلطات المحلية بالرباط.

فالشخصيات المستقلة كانت تتشكل من محمد مشيشي العلمي الإدريسي أستاذ جامعي رئيسا وزكية داوود صحافية مديرة مجلة “لاماليف” و المرحوم الخضير الريسوني، كاتب صحافي واذاعي. وعن الهيئات والمنظمات الحقوقية ضمت الهيئة كلا من عبد الرحيم بن بركة نقيب هيئة المحامين بالرباط ممثلا عن جمعية هيئات المحامين بالمغرب وعبد الرحمن بنعمرو النقيب سابق محام بهيئة الرباط، عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وعبد الصمد المرابط المحامي بهيئة الرباط، عن العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، والراحل عبد الله الولادي المحامي بهيئة الدار البيضاء، رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وأحمد أبادرين المحامي بهيئة مراكش، رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان.

وعن النقابة الوطنية للصحافة المغربية فكان يمثلها كلا من الصحافيات والصحافيين، فاطمة بوترخة (وكالة المغرب العربي للأنباء) ومصطفى الزنايدي (جريدة السياسة الجديدة) والطيب العلمي (الإذاعة الوطنية) والمرحوم عبد الله العمراني (التلفزة المغربية) والراحلة فاطمة الوكيلي (القناة الثانية) وشفيق اللعبي (أسبوعية لافي إيكونوميك) وعبد الناصر بنو هاشم (القناة الثانية) وجمال المحافظ (وكالة المغرب العربي للأنباء) مقررا عاما للهيئة.

أما فيدرالية الناشرين فكانت ممثلة في الهيئة بعبد المنعم دلمي المدير العام لجريدتي “الصباح” و” ليكونوميست” رئيس الفيدرالية، ومحمد الإدريسي القيطوني: مدير جريدة (لوببينيون) ومحمد البريني مدير جريدة (الأحداث المغربية) ومحمد السلهامي مدير أسبوعية (ماروك إيبدو) وفاطمة الورياغلي مديرة أسبوعية “فينانس نيوز”. وعن هيئات المجتمع المدني ضمت الهيئة كلا من الأستاذ الجامعي رشيد الفيلالي المكناسي عن الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبرنسي المغرب) ونجيب خداري صحفي وشاعر عن اتحاد كتاب المغرب.

هيئة ومجلس

جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتحولات عميقة عرفتها كافة المجالات ومنها الصحافة والاعلام، لكن من خلال المسار الذي توقفنا عنده يتضح بجلاء أن طرح أخلاقيات الصحافة، لم تكن مبادرة فردية، بل كان نتيجة مسلسل وعمل جماعي مشترك، دشنه الصحفيون بأنفسهم، ولم يكن نتيجة ” اتفاقات 2016″ التي نجم عنها ميلاد المجلس الوطني للصحافة، الذي كان نسخة معدلة جينيا لهيئة أخلاقيات الصحافة، تحكم فيه ” الصراع الانتخابي ” من أجل التموقع فيه، أو مع محاولات لركوب موجة أخلاقيات المهنة من لدن أطراف، ساهمت، بطريقة أو بأخرى في الإجهاز على هذه التجربة الوطنية الجماعية التي كان من الأولى على ضيف ” ضفاف الفنجان “، أن يكشف بجرأة أكبر عن مآلها، وأن يتحمل المسؤولية إلى جانبه من كان في صلبها مساهمة في نفض غبار النسيان عنها، وحفظ الذاكرة. فهذه الهيئة ” لم تولد ميتة” كما كان يحلوا للبعض وصفها ابان تشكيلها وعملها. لكن القصة قد تكون لها بقية، اعمالا بالقاعدة المهنية أن الخبر ما سيكتب وليس ما كتب خاصة في زمن اللايقين.

*جمال المحافظ