إسماعيل الفتح.. الأمريكي الذي يريد إصلاح التحكيم المغربي

في مساء ربيعي من عام 2000، كان الشاب إسماعيل الفتح الذي أكمل لتوه 18 سنة من عمره، يعبر أحد أزقة مدينة الدار البيضاء، فوقعت عيناه على صفحة من جريدة ورقية ملقاة على على طاولة فارغة لأحد الباعة الجائلين، فالتقطها ليبحث فيها عن أي شيء يثير اهتماماته الرياضية، لكن بدل ذلك وقعت عيناه فيها على إعلان حول قرعة الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية، فقرر التسجيل فيها غير مؤمن بحظوظه في أن يكون واحدا من الفائزين.
لكن الأقدار كانت لها الكلمة الأخيرة، إذ بعد أشهر تلقى فيها الشاب إسماعيل خبر ورود إسمه في لائحة المغاربة الذين سيشدون رحالهم مهاجرين إلى بلاد العم سام والإستقرار هناك، وكان بعد فترة من الإعداد وتجهيز نفسه للهجرة، يصعد سلم الطائرة في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، حاملا معه مبلغ 200 دولار أمريكي، والكثير من الأحلام تراوده عن العالم الجديد، لكن أقصاها لم يصل أبدا إلى تخيل أنه سيصبح بعد عشرين سنة واحدا أفضل حكام كرة القدم في الولايات المتحدة، وواحدا من أبرز حاملي الصفارة في العالم.
نشأة رياضية
وسط حي سباتة الشعبي بالدار البيضاء، ازداد إسماعيل الفتح في الثالث من شهر مارس من عام 1982، وقضى طفولته عاشقا لكرة القدم ممارسا لها في الأحياء والأزقة، كما عاش إسماعيل في وسط عائلي يتنفس الرياضة، فوالده محمد الفتح كان لاعبا في صفوف المنتخب المغربي للريكبي، قبل أن يصبح رئيسا لفريق “رامو” لهذه اللعبة، أما شقيقه فكان لاعبا لكرة القدم ضمن فريق الناشئين للرجاء الرياضي.
ومنذ صغره، كانت الرياضة جزءا لا يتجزأ من حياته، حيث برز بشكل ملفت في الألعاب المدرسية كلاعب واعد في رياضة كرة السلة، فالتحق إسماعيل بالفئات العمرية للوداد الرياضي لكرة السلة، وخاض تجربة قصيرة في نادي الاتحاد الرياضي دون أن يقطع الصلة بكرة القدم. لكن بعد حصوله على شهادة الباكالوريا في العلوم الاقتصادية من ثانوية جابر بن حيان بالعاصمة الاقتصادية، صادف الحظ اسماعيل فنجح في قرعة الهجرة إلى أمريكا عام 2001.
الحياة الأمريكية
وصل الشاب إسماعيل الفتح إلى أوستن بولاية تكساس، حيث وجد مناخا حارا شبيها بالذي ألفه في بلده المغرب، وكان رهانه الأول تعلم اللغة الإنجليزية، والحصول على عمل يواجه بمدخوله تكاليف الحياة الباهضة في الولايات المتحدة الأمريكية.
في سنة 2006، حصل ابن مدينة الدار البيضاء، على شهادة في الهندسة الميكانيكية من جامعة تكساس، واستطاع بذلك العمل في مبيعات أجهزة الحاسوب براتب محترم أمن له القيام بأنشطته الرياضية والجمعوية، حيث عرف في مدينة في مدينة أوستن، بمساهمته مع العديد من مبادرات الجالية المسلمة بالمدينة ،كما كان عضوا نشيطا ضمن “Soccer Assist” و”Austin Soccer”، وهما منظمتان غير ربحيتين تعملان في التوعية المجتمعية، من خلال بناء ملاعب كرة القدم، والتبرع بالمعدات، وتقديم المنح الدراسية، فضلا عن نقل رسالة الأمل والتضامن للشباب.
حكم بالصدفة
ولأن الصدفة في حياة اسماعيل لعبت دورا في استقراره في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها أبت إلا أن تدخله عالم التحكيم من أوسع أبوابه , حيث أكد أنه خلال سنوات دراسته الجامعية، توترت معاملته مع حكم إحدى المباريات التي كان يشارك فيها كلاعب مع فريق من الطلبة، مما دفعه إلى التوجه إلى لجنة الحكام للشكاية ، لكنهم قالوا له مازحين: “أنت لاعب جيد لماذا لا تلتحق بنا، لتحمل الصفارة وتحكم معنا”.
وجد اقتراح اللجنة صداه في مفكرة اسماعيل , ومنذ عام 2004، اشتغل حكما ممارسا، إذ تدرج في مساره ليصبح حكما رئيسيا في دوري العصبة الاحترافية الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2009، ثم حكما دوليا معترفا به من لدن الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” منذ العام 2016 .
واستطاع اسماعيل الفتح أن يبصم على مسار مهني متألق , حيث قادته خبرته ورزانته في التحكيم لقيادة مباريات دولية ضمن اتحاد شمال ووسط أمريكا والكاريبي “كونكاكاف لمنتخبات أمريكا والمكسيك وكوستاريكا وكندا والسلفدور وجمايكا , وهي المنتخبات التي حكم مبارياتها في دوري “كونكاكاف” وإقصائيات كأس العالم، بجانب قيادته كحكم دولي لمواجهات فرق عالمية في كأس “غينيس الدولي”، منها ريال مدريد ومانشستر يونايتد وتشيلسي , أضافة لكأس العالم للشباب , وكأس العالم للأندية والذي اقيم مؤخرا بقطر والذي توجه بتعيينه حكما رابعا في النهائي التاريخي الذي جمع الأرجنتين بفرنسا.
أول حكم استعمل “الفار”
بروز إسماعيل الفتح كأفضل حكم في الولايات المتحدة الأمريكية، مكنه من أن تعهد إليه إدارة أول مباراة كرة قدم في العالم تم فيها تجريب تقنية حكم الفيديو المساعد “الفار”، وكان ذلك في 12 من غشت من سنة 2016، وجمعت المباراة بين ناديي ريد بولز نيويورك، وأولاندو سيتي، حيث لجأ فيها الفتح إلى الشاشة للحسم في حالتي ضربة جزاء وورقة حمراء، وكانت تلك التجربة هي أول من فتح الباب أمام الإتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” لاعتماد التقنية رسميا في كأس العالم 2018 الذي احتضنته روسيا.
كما كان لإسماعيل الفتح الشرف في أن يكون أول من اقترح الحركة التي يقوم بها الحكام في ملاعب العالم، التي تفيد بلجوئهم إلى تقنية “الفار” لمراجعة الحالات التي يصعب حسمها عند حدوثها، وكان الإقتراح في اجتماع الحكام الذي سبق المباراة التي تم فيها تجريب التقنية لأول مرة، قبل أن يتبناها مجلس “إيفاب” في الإتحاد الدولي لكرة القدم ويعتمدها رسميا في قوانين اللعبة.
إصلاح التحكيم المغربي
في 18 مارس الحالي كلفت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم إسماعيل الفتح بمهمة تقييم شامل لمنظومة التحكيم الوطنية، بهدف تحديد مكامن القوة والضعف واقتراح آليات تطويرها.
وكان قد أُعلن عن هذا التكليف خلال حفل رسمي أقيم بمقر الجامعة، بحضور رئيسها فوزي لقجع، ورئيس العصبة الاحترافية عبد السلام لقشور، وممثلين عن العصب الوطنية، وأعضاء المديرية الوطنية للتحكيم، واللجنة المركزية للتحكيم.
وقد عبر إسماعيل الفتح خلال تصريح لقناة الجامعة على “يوتيوب”، عن فخره بهذه المهمة، مؤكدا أن العمل على تطوير التحكيم المغربي يمثل مسؤولية كبيرة وشرفا له.وقال: “إنه لشرف كبير أن يطلب مني وطني العمل مع المنظومة الرياضية هنا. أهنئ الجميع على الإنجازات التي تحققت، ونحن كمغاربة في الخارج فخورون برؤية بلدنا يسير في الاتجاه الصحيح”.
مشروع الإصلاح الذي يحمله الفتح، يقوم على ثلاث ركائز، الجانب التقني المرتبط بالبطولة الاحترافية، تأهيل الحكام للاحتراف بمفهومه الكامل، ثم إصلاح الهيكلة التنظيمية والقانونية. ولا يقتصر المشروع على توصيات عامة، بل يتضمن تفاصيل دقيقة تهم التحكيم بالفيديو “VAR”، التكوين، آليات التقييم، معايير التعيين، وحتى بروتوكولات التعامل مع وسائل الإعلام بعد نهاية المباريات.
ومن اللافت أن الفتح لم يكتف بطرح الإشكالات، بل استعان بفريق تقني يضم خبراء أجانب في التحكيم بالفيديو، ومهندسين مختصين في رقمنة الأداء التحكيمي وتحليل البيانات الإحصائية لكل مباراة.
أحد الجوانب التي أثارت الانتباه في المشروع هو اهتمامه بتأهيل الحكم كمحترف، ليس فقط بدنيا أو تقنيا، بل أيضا من حيث السلوك الإعلامي، والتواصل مع الأندية، وضبط تفاصيل الأسبوع التحضيري للمباريات. كما لم يغفل المشروع نقطة حساسة تتعلق بالاعتمادات المالية الخاصة بالحكام، في إشارة إلى ضرورة تحسين وضعيتهم بما يليق بحجم الضغط والمهام الموكولة إليهم.