story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إدريسان وعزيز

ص ص

هناك تعاقد ضمني جرى قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة، وساهم في النتائج التي انتهت إليها تلك الاستحقاقات، عبر القاسم الانتخابي وإدغام الاقتراع التشريعي في الانتخابات الجماعية والمحلية وأشياء عديدة أخرى.

عنوان هذا التعاقد هو تنزيل مشروع تعميم الحماية الاجتماعية وإصلاح المنظومة المهددة بالإفلاس لصناديق التقاعد والحفاظ على التوازنات الكبرى لمالية الدولة. واليوم، نحن أمام جرس إنذار يفيد أن البنود الأساسية لهذا التعاقد الضمني خارج دائرة التحقق، ما يطرح سؤالاً كبيرا حول جدوى الاستمرار في النهج الحالي بما أن مآلاته تبدو من الآن فاشلة.

لسنا أمام تقديرات خبراء ولا تقارير دولية مغرضة ولا خطابات معارضة غير منصفة، بل سندنا اليوم في هذا التقييم هو التقرير السنوي الجديد للمجلس الأعلى للحسابات. وأول ما يستوقفك وأنت تتفحص صفحات الوثيقة التي وضعها المجلس بين يدي الملك قبل أن يطلعنا عليها، هو تأكيده المخاوف التي يعبر عنها خبراء ومحللون، حول إمكانية تمويل واستدامة منظومة الحماية الاجتماعية التي تبشر بها الحكومة، وتصر على أنها نجحت في تنزيلها.

حلم تمتيع جميع المغاربة بالتغطية الصحية والتعويضات العائلية ومعاش التقاعد جميل ومغر، لكن ما يجري حاليا هو محض توريط للودلة في التزامات لا تستطيع الوفاء بها. لماذا؟ بكل بساطة لأن التركيبة المالية التي وضعت لها بدأت تبدي عجزها من الآن وقبل حتى أن يتوصل المستحقون للدعم بأولى التحويلات المالية.

يخبرنا قضاة المجلس الأعلى للحسابات بما كنا نعلمه مسبقا في الحقيقة، لكنه اليوم يكتسب حجية جديدة، وهي أن أحد المكونات الأساسية لما يعرف بالحماية الاجتماعية، أي التعويضات العائلية، ما زال يفتقر إلى مصدر للتمويل. واستناد إلى المعطيات التي حصل عليها المجلس من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فإن المساهمات التي تعول عليها الحكومة من جيوب بعض الفئات الجديدة المشمولة بالتغطية، لم تحقق سوى ربع ما كان منتظرا منها، أي مليار و337 مليون درهم، بدل حوالي خمسة ملايير التي كانت منتظرة.

ويستنتج تقرير المؤسسة الدستورية أن النظام “يهدده خطر العجز خلال الأسابيع أو الشهور المقبلة”، نعم، العبارة الأخيرة موجودة حرفيا في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والذي يضيف أن نسبة تحصيل الاشتراكات تبقى ضعيفة عند بعض الفئات، مثل الفلاحين، حيث لا تتجاوز 5 في المائة، والحرفيين الذين لم يساهموا إلا بنسبة 11 في المائة، في مقابل نسبة مساهمة تبلغ مائة في المائة عند المقاولين الذاتيين، أي أننا بصدد إنتاج شكل جديد من التفاوت وعدم الانصاف في تحمل الأعباء المشتركة.

مصدر قلق آخر يذكرنا به المجلس الأعلى للحسابات، يتعلق بأنظمة التقاعد التي نعرف جميعا ومنذ سنوات أنها تستهلك احتياطاتها وتتجه تدريجيا نحو الإفلاس، بينما لم تف الحكومة بما التزمت به قبل سنة من الآن، من مسار للتشاور والحوار كان يفترض أن يفضي إلى وصفة نهائية للإصلاح والشروع في تنفيذها في شهر ماي الماضي.

جميع أنظمة التقاعد دخلت في مرحلة العجز، آخرها النظام التابع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي أخبرتنا الحكومة سابقا أنه التحق بدءا من 2022 بركب صناديق التقاعد التي تسجل عجزا تقنيا، فيما يدق اليوم المجلس الأعلى للحسابات ناقوس خطر جديد مرتبط بما يسميه مشاكل في حكامة هذا الصندوق وتداعيات تكليفه بتدبير التغطية الصحية للفئات الجديدة المشمولة بالتغطية، أي أننا وبكل اختصار نقامر بمدخرات أجراء القطاع الخاص التي اقتطعت من أجورهم على مدى عقود، لتمويل نظام جديد انطلق منذ البداية بعجز بيّن في ماليته.

“وبهذا الخصوص، يؤكد المجلس على ضرورة الإسراع في الانخراط الفعلي في الإصلاح الهيكلي لمنظومة التقاعد مع تأكيده على أن التأخر في هذا الإصلاح يزيد من تعقيد وضعية هذه المنظومة ويرفع من المخاطر التي قد تهدد، بشكل متزايد، ميزانية الدولة على المديين المتوسط والبعيد”، والحديث هنا للوثيقة التي تسجل بكل حسرة عدم تنفيذ أي من توصيات المجلس السابقة حول إصلاح أنظمة التقاعد.
أما ثالثة الأثافي التي يمكن استخلاصها من قراءة شاملة لصفحات التقرير الجديد للمجلس الأعلى للحسابات، فهي تمدد رقعة العجز لتشمل مالية الدولة وتوازناتها الكبرى، إذ يخبرنا التقرير الجديد أن بلادنا استدانت بشكل مفرط خلال سنة 2022 بفعل الحاجة إلى تمويل عجز الميزانية.

ورصد المجلس مواصلة الاعتماد بشكل متزايد على الاقتراض بمستوييه الداخلي والخارجي. “ونتيجة لذلك تمت تعبئة موارد الاقتراض بشكل أدى إلى ارتفاع حجم دين الخزينة إلى ما يناهز951 مليار درهم سنة 2022، بزيادة فاقت 66 مليار درهم مقارنة بسنة2021، مما أدى إلى ارتفاع مؤشر خدمة الدين الذي سجل نسبة 71,6%من الناتج الداخلي الخام، سنة 2022، مقارنة بنسبة 69,5 % سنة 2021”.
نعم، الحديث هنا يعود حرفيا إلى تقرير المجلس الأعلى للحسابات ولا دخل لي فيه، كما لا دخل لأحد في تسجيل المجلس كون هذا التطور يعتبر تراجعا نسبيا عن الانخفاض الذي تم تسجيله بين سنتي 2020 و2021 على مستوى مؤشر المديونية (من72,2إلى69,5%)، “وقد يحمل معه مخاطر انطلاق مرحلة جديدة لتفاقم المديونية”.

ما رأي الحكومة في هذه خلاصات والتحذيرات؟

آه نسيت، لقد سبق للمجلس الأعلى للحسابات أن قام بافتحاص شامل لما يأكله المغاربة من خضر وفواكه ولحوم بمختلف أنواعها، وانتهى إلى أن طعام المغاربة بشكل شبه شامل لا يصلح في الأصل للاستهلاك البشري، بل ربما حتى الحيواني، في البلدان التي تحترم حيواناتها.

ما حصل وقتها هو أن الرئيس السابق للمجلس الأعلى للحسابات الذي جرى في عهده ذلك الافتحاص، طيب الذكر إدريس جطو، رحل عن منصبه وخرج تماما من المشهد، بينما ترقى وزير الفلاحة الذي كان معنيا بذلك التقرير، وأصبح رئيسا للحكومة، تماما مثلما رحل رئيس مؤسسة دستورية أخرى، هو إدريس الكراوي، الرئيس السابق لمجلس المنافسة، وخرج بدوره من المشهد، بعدما أقرّ عقوبات ضد شركات من بينها شركة وزير الفلاحة السابق، رئيس الحكومة الحالي.

رحل إدريسان وبقي عزيز، لكن الخلاصات والتقييمات لم ترحل بقدر ما تفاقمت واستفحلت: طعام المغاربة لم يعد سيئا ورديئا فقط، بل بات نادرا وغاليا أيضا، أما المحروقات فتعرفون كيف تضاعف ثمنها وتنوعت مصادرها بين نظامي وآخر مشمول بشبهات إضافية، ناتجة عن مصدرها الروسي.