story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

أمريكا.. آخر المستعمرات الأوروبية

ص ص

هل تعتبر أوروبا الغربية حليفة للأمريكيين؟ وهل ستبقى كذلك؟ وهل كانت كذلك يوما ما؟

الإجابة على هذا السؤال بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كلمة واحدة هي: لا، لم ولن تكون.

أما إذا أردنا التفصيل في الجواب فإن كل تصريحات دونالد ترامب تقول بأنه “لا يفهم” لماذا يجب عليه أن يكون عدوًا لروسيا والصين، بدلا من الاكتفاء بأن يكون منافسا لهما، وفي نفس الوقت “لا يفهم” ما الذي يبرر أن تكون الولايات المتحدة حليفة وحامية لأوروبا عوض أن تكون عدوا لها، وما الذي تستطيع أوروبا تقديمه للولايات المتحدة أكثر أو أفضل مما يمكن لأمريكا استخلاصه من علاقات طبيعية وتنافسية مع الصين وروسيا ودول منافسة أخرى؟ ولا يفهم لماذا يجب أن يخوض الحرب في أوروبا نيابة عن الأوروبيين عوض أن يركّز على استثمار تكاليف ذلك في تقوية موقف الولايات المتحدة في سباقها العلمي والاقتصادي والاستراتيجي مع الصين مثلا .

يقول هنري كيسنجر، أو “الثعلب ” كما يلقَّب، في كتابه “الدبلوماسية”، إن أفضل الفترات في تاريخ الولايات المتحدة هي حينما كانت بعيدة سياسيا وجغرافيا عن صراع الهيمنة الذي كان ولا يزال يشكل جوهر العقل الأوروبي، ومبرر الوجود بالنسبة للدول الأوروبية بشكل عام. ويقول فإن عقلية السعي هذه نحو الهيمنة هي التي تسببت في العدد الهائل من الحروب البينية بين الدول والإثنيات الأوروبية، وهي التي كانت المحرّك الأساسي للتمدد والاستعمار الأوروبي لدول وقارات خارج أوروبا بما في ذلك أمريكا ذاتها .

وقد ظلت أمريكا، كما يلاحظ ذلك كيسنجر، لفترة طويلة بعيدة عن هذه المنظومة وهذه العقلية الهيمنية الأوروبية، إلى أن تم استدراجها إليها في بداية القرن الماضي مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

لذلك فإن ترامب يكاد، وفق هذا المنظور، وبناءً على ما سبق، (يكاد) يكون زعيما لحركة تحرر وطني أمريكي جديدة، تهدف للانعتاق من “الاستعمار الأوروبي”، ولذلك فهو حين يتكلم عن شعاره “أمريكا أولاً”، فإنما يريد الانعتاق من الأجندة الأوروبية التي شوهت كثيرا وجه أمريكا وجرتها إلى النمط السياسي الأوروبي والذي يعتمد على إشعال الحروب وإذكاء الصراعات والعنف المطلق وصراع الهيمنة.

ويرى ترامب أنه وبينما تفرغت أوروبا خلال القرن الماضي لبناء ذاتها واقتصاداتها والانتشار في بقاع العالم، وجدت أمريكا نفسها كالواقف بباب المعبد الأوروبي وكمن يحمي تلك المنظومة ويدافع عنها دون عائد حضاري يذكر، وأن المستفيد الوحيد من ذلك كان هو تجّار الحروب والأزمات الذين يأكلون الثوم بفم أمريكا، أو ما نسميه “الدولة العميقة العابرة للقارات”، والممتدة من واشنطن إلى باريس وبرلين مرورا بلندن وغيرها

ومن الناحية العملية، يلاحظ ترامب أن تخلص روسيا من حلف وارسو بشكله القديم والذي كان يشبه إلى حد بعيد حلف الناتو اليوم، والذي كانت روسيا تتحمل فيه العبء الأكبر، سياسيا وعسكريا وماليا، مثلها في ذلك مثل ما تتحمله الولايات المتحدة اليوم في حلف شمال الأطلسي، هو ما مكّن روسيا من النهوض من رمادها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأن ذلك النهوض إنما صار ممكنا بفضل وجود قائد مثل بوتين، قادر على إعادة توجيه الأولويات الوطنية لروسيا في اتجاه تقوية الدولة الوطنية في نسختها المركزية في ما يشبه شعار “روسيا أولا”، وهذا ما جعل ترامب معجبا كثيرا بالرئيس الروسي، ودفعه لمحاولة استنساخ تجربته في أمريكا، في محاولة منه لاستعادة قوة الولايات المتحدة التي يرى ترامب أن النهج الحالي سيؤدي بها إلى الانهيار لا محالة.

وهذا ما يُفهم من عبارة “جعل أمريكا عظيمة من جديد” كما جعل بوتين “روسيا عظيمة من جديد”، بعدما تخلصت من أحمال وتكاليف دعم الدول الحليفة لها في حلف وارسو، وهذا كذلك هو ما يجعل ترامب معجبا بالصين وبالرئيس الصيني من جهة أخرى، لأنه أدرك أن الصين لا تسعى نهائيًا لتكوين الأحلاف، وليست لا طرفا ولا متحملة لأعباء أي حلف، مما يجعلها متحللة من التكاليف المادية والسياسية والعسكرية والتدبيرية والدبلوماسية، ويساعدها على توجيه قدراتها نحو التركيز على تطوير الحاجيات الداخلية والأولويات الصينية الخالصة، ونقصد هنا أن الصين، على المستوى العسكري، ليست طرفا في أي حلف، بينما على المستوى السياسي والاقتصادي تنهج أساسا، بل وحصريا، أسلوب العلاقات الثنائية، حتى داخل المنظمات المتعددة الأطراف، وتفضل هذا الأسلوب بكثير على العلاقات المتعددة الأطراف .

قراءة ترامب لهذه الخلاصات جعلته يفهم مدى خطورة استمرار أمريكا في الانشغال بإنجاز مهام لا تدخل حقيقة في صلب مصالح ومستقبل دولة وشعب الولايات المتحدة، وهو ما جعلها تنشغل عن مراقبة منافسيها مثل الصين وروسيا، حتى وجدت نفسها فجأة وقد تجاوزتها الصين في مجموعة من المجالات، خصوصا في مجال التكنلوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدقيقة، وتجاوزتها روسيا في مجالات أخرى أهمها تطوير البنية الانتاجية والعسكرية النووية والصاروخية .

لذلك قلنا إن ما يقوم به الرئيس الأمريكي اليوم أشبه ما يكون بحركة تحرر وطنية جديدة .

بالطبع سيجر ترامب على نفسه حتما العديد من المطبات والمؤامرات والصراعات قبل أن ينجز ما يرمي إليه إن استطاع .وقد كشف الموقف الأوروبي من الجدال الذي حصل بين زلينسكي وترامب، والتحركات التي تلت ونتجت عن ذلك الموقف، (كشفت) لترامب أنه كان على حق، وأن أوروبا مستمرة في إشعال الحروب وإذكاء الصراعات وتكريس عقلية الهيمنة، وأن أمريكا ليست سوى أداة لتحقيق ذلك.

وتبين له أن الأوروبيين لا يعتبرون أمريكا “جيدة” بما يكفي، إلا حين تنساق لتحقيق المآرب الأوروبية، وانتبه ترامب إلى أنه بمجرد ما انتفض هو ونائبه ضد فخ الاستنزاف الأوروبي لأمريكا من خلال الموقف من زلينسكي، انكشفت حقيقة الأوروبيين، واختاروا الاصطفاف ضده وضد أمريكا.

لذلك من المرجح جدا أن يستمر ترامب في السير في مسار الابتعاد عن أوروبا وإعادة ترتيب علاقات الولايات المتحدة بها وبباقي دول العالم وفق المصالح الأميركية، بينما ستحاول أوروبا أن تزمجر وتهمهم لبعض الوقت قبل أن تدرك أنها لا تملك مقومات الاستمرار فتنهار في مشهد سيذهل العالم.

ومن النتائج الأخرى التي لا يراها الكثيرون حاليا لحركة التحرر الوطني التي يتزعمها ترامب، هو أنه سيتخلى لاحقا عن إسرائيل أيضا. وأنّ ذلك سيحدث في غضون بضع سنوات، لأنه يعتبرها ربيبا ليس من صلبه بل هو إرث أوروبي لا يندرج في صميم المصالح الاستراتيجية الأمريكية.

يستبعد الناس اليوم هذا الأمر نظرا لما يلحظونه من مواقف ترامب المؤيدة لإسرائيل، والحقيقة أن هذا المستوى من الدعم الذي يعلن عنه الرئيس الأمريكي لإسرائيل إنما يسعى من خلاله للتخلص بأقصى سرعة من هذا الإرث المكلف سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، خصوصا إذا ما نجح في غرس شعاره المتعلق بمستقبل “أمريكا أولا”، في نائبه وفي أدبيات الحزب الجمهوري.

فإسرائيل إرث أوروبي مكلف جدا ورثته واشنطن عن المكر الأوروبي، بل وعن جرائم أوروبا النازية ضد اليهود، ولا يرى ترامب أن أمريكا يجب أن تتحمل أو تؤدي ثمن ما اقترفته أوروبا، وقد جاءت المحادثات السرية بين الأمريكيين وحماس في الدوحة لتؤكد ما نرمي إليه، وحيث إن ترامب يدرك أن الأوروبيين ليسوا متحمسين لاسترجاع الملف الإسرائيلي، فقد تفتقت عبقريته عن خطة أخرى: إلقاء هذا الربيب في حجر الإماراتيين ومن يدور في فلكهم، وهذا بالطبع هو جوهر فكرة “الاتفاقيات الإبراهيمية”…