أقنعة “لي سينيور”
ما وقع هذا الأسبوع خلال انعقاد دورة أكتوبر لمجلس جماعة أكادير، من هجوم أقل ما يمكن أن يوصف به هو الرعونة، شنّه رئيس المجلس الذي هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار؛ لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام.
هذا مشهد أشبه بصوت الأجراس الذي تقرعه الكنائس ليدوّي في أرجاء المدن، منبّها إلى حدث خطير أو جلل. وفي سياق سياسي واجتماعي سليم، لا يمكن لمسؤول سياسي من هذا المستوى في هرم التدبير، أن يخرج من هذه الواقعة دون عقوبة أو ثمن يدفعه، أقله الاعتذار والاعتراف بالخطأ.
وأنا أتأمل الواقعة وأبحث عن تفاصيها وأراجع بنود مشروع الميزانية الذي كانت المستشارة الجماعية الشابة المنتمية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، رجاء مسو، تناقشها بكل ما تقتضيه المسؤولية السياسية والأخلاقية من دقة ووضوح وطرح للأسئلة التي يجب أن تطرح؛ شعرت أن التطرق إلى الموضوع يحتاج إلى أكثر من مجرد رد فعل غاضب وانفعالي. هذا سلوك مشروع وطبيعي، لكنه يليق أكثر بمنصات التواصل الاجتماعي وليس بمقال صحافي يجدر به أن يحاول فهم وتفسير الواقعة.
لم أجد في حقول التواصل وعلم السياسة وعلم الاجتماع، غير ثلاثة مداخل ممكنة لتفسير “رشقة” رئيس الحكومة ضد مستشارة جماعية أرادت معرفة مبرر إدراج اعتمادات مالية إضافية برسم السنة المقبلة، تحت مسمّيات فضفاضة مثل التدريب والاستقبال والإيواء والهبات…
رئيس حكومة يفترض فيه أنه سياسي ومنتخب، يستنكر ممارسة أبسط أشكال الفعل السياسي في حضرة سعادته، أي التساؤل والنقد والتعبيد عن الرأي، ويمارس سلطته كرئيس لمجلس الجماعة ليعلن حظر السياسة إجمالا، وتخصيص المتحدثة بحظر خاص لكونها لا تليق بمقام امبراطور العصر، مفضلا ترك مهمة مناقشته سياسيا لمن أسماهم “ليسينور” الذين يجدهم في الرباط.
المدخل الأول الذي تبادر إلى ذهني وأنا أحاول النظر إلي الواقعة من خارج دائرة الانفعال، هو نظرية النخبة في العلوم السياسية، والاتي تفترض أن القرارات السياسية، سواء كانت على المستوى الوطني أو المحلي، يتم توجيهها بشكل أساسي من قبل نخبة صغيرة تتمتع بالسلطة والموارد الاقتصادية.
وتوضح نظرية النخبة كيف يمكن للأفراد توظيف مناصبهم لتعزيز مكانتهم وإعادة إنتاج نفوذهم. فوجود أخنوش في مناصب رفيعة على المستويين الوطني والمحلي يعكس هذا التكريس للنفوذ، ويُظهر كيف تُستخدم المواقع القيادية لضمان استمرار السيطرة على عملية صنع القرار، ومنع التداول على المسؤوليات.
تعتبر رجاء مسو، كمستشارة جماعية، جزءًا من نخبة سياسية بديلة تسعى لتحدي السلطة المهيمنة في المدينة (أكادير)، وإن كانت تنتمي حاليا إلى تحالف الأغلبية الذي يرأسه أخنوش محليا. وتفترض نظرية النخبة أن المعارضة تتكون أيضًا من نخب سياسية تهدف إلى تحقيق مواقع تأثير داخل النظام السياسي، ومحاولة تغيير التوازن القائم لصالحها.
هذه النخب الجديدة التي تمثلها مسو تسعى إلى تحدي النخب التقليدية التي تسيطر على المناصب القيادية منذ فترة طويلة، بهدف إعادة توزيع السلطة والموارد بما يتوافق مع مبادئ الديمقراطية والشفافية.
ومن داخل هذا الإطار النظري تبدو انتقادات المستشارة الاتحادية رجاء مسو، كمحاولة لتحدي الهيمنة النخبوية التي يمثلها أخنوش، من خلال تسليط الضوء على غياب الشفافية والمساءلة في كيفية استخدام الموارد المخصصة لتنمية المدينة.
أما المدخل الثاني لقراءة الواقعة، فهو مفهوم الأوليغارشية التي تشير إلى حكم الأقلية، أو نخبة صغيرة تتحكم في السلطة والثروة، وتُعدّ بدورها إطارًا قويًا لفهم الجدل بين عزيز أخنوش ورجاء مسو بشأن إدارة الشؤون المحلية في مدينة أكادير.
تُفسَّر الأوليغارشية عادةً بأنها نظام يُحكم فيه المجتمع من قِبل نخبة صغيرة تتمتع بالسلطة الاقتصادية والسياسية. ويمثّل عزيز أخنوش، كرجل أعمال بارز في المغرب ورئيس الحكومة وعمدة مدينة أكادير، تجسيدًا لهذه النخبة المزدوجة التي تجمع بين النفوذ الاقتصادي والسياسي. ومن خلال هذا الموقع، يمكن لأخنوش توجيه السياسات المحلية والوطنية لتحقيق أهداف قد تخدم مصالحه ومصالح شركائه.
في سياق مدينة أكادير، يمكن فهم الانتقادات الموجهة لأخنوش بشأن إدارة المشاريع والميزانيات المحلية كجزء من محاولة الأوليغارشية للسيطرة على الموارد وتوجيهها بشكل يخدم مصالح النخبة بدلاً من الصالح العام، وتقليص فعالية المساءلة الديمقراطية.
يسعفنا هذا المفهوم كثيرا في هذا الموضوع، لكون الأوليغارشية تعتمد بشكل كبير على التداخل بين القوة الاقتصادية والسياسية، حيث يُستخدم النفوذ الاقتصادي لتعزيز السيطرة السياسية والعكس صحيح. هذا بالضبط ما نراه في حالة عزيز أخنوش، الذي يستخدم قوته الاقتصادية كوسيلة لتعزيز مكانته السياسية، مما يصعّب على الآخرين مواجهة هذه الهيمنة.
الانزعاج الكبير الذي بدا على أخنوش وهو يجيب مسو، من خلال حركات يده التي امتدت نحو عقدة ربطة عنقه كما لو ضاق تنفسه، يفسّره حرص الأوليغارشيين على تشكيل صورة إيجابية لأنفسهم كقادة ناجحين يسعون لتحقيق التنمية، وهو ما جاءت مداخلة مسو لخدشه.
أما المدخل النظري الثالث الذي يصلح لقراءة الواقعة، فهو فكرة “أصحاب الياقات البيضاء” (White-Collar Workers)، التي تُشير إلى الأفراد الذين يعملون في وظائف إدارية أو مهنية عالية المستوى، وعادة ما يرتبطون بالطبقة المتوسطة أو العليا.
يمثّل عزيز أخنوش مثالاً كلاسيكياً لصاحب “الياقة البيضاء” الذي يتمتع بنفوذ اقتصادي كبير كرجل أعمال بارز، إضافةً إلى سلطته السياسية كرئيس للحكومة المغربية وعمدة مدينة أكادير. ويمكن تفسير مواقفه وسلوكه في الجدل مع رجاء مسو من منظور استغلال هذا النفوذ لتحقيق أهدافه وتكريس مكانته.
وفيما يُقصد عادة بسلوك أصحاب الياقات البيضاء، تلك الأنواع من الفساد المؤسسي التي غالباً ما تُرتكب داخل الأطر الرسمية والقانونية؛ تشير العبارة أيضا إلى استغلال هؤلاء لمهاراتهم ومعرفتهم الإدارية والقانونية لتجنب المساءلة والانتقاد. ومن خلال الدفاع عن سياساته باستخدام لغة متخصصة تتعلق بالتنمية المستدامة والتحولات الاقتصادية، يسعى أخنوش إلى بناء صورة إيجابية لنفسه كنخبة “بيضاء الياقة” تحاول خدمة المجتمع، مما قد يُعقد مهمة مخالفيه في مواجهة هذه الرمزية.
وتمثل رجاء مسو في هذه الحالة، بوصفها مستشارة جماعية غير منتمية إلى حزب الرئيس وإن كانت ضمن أغلبيته، فئة من النخب الأقل حظاً أو تلك التي لا تمتلك نفس النفوذ الاقتصادي والسياسي، وتستخدم الجدل كوسيلة لكشف سوء استغلال السلطة والموارد من قبل “أصحاب الياقات البيضاء”.
وباعتماد أي من هذه المداخل النظرية لفهم الواقعة، نصبح في مشهد سياسي أقرب إلى مسرحية من نوع الكوميديا السوداء، حيث نجد رئيس الحكومة المغربية وعمدة أكادير، عزيز أخنوش، يعتلي خشبة مجلس الجماعة وكأنه يحمل عصا الساحر، مستعرضًا مشاريعه التنموية البراقة.
وأمامه، تقف رجاء مسو، المستشارة الجماعية التي ربما لم تكن مدعوة لحفل الأوليغارشية الحصري، وهي تسلّط أضواء كاشفة على ثقوب الجلابيب البيضاء التي يرتديها أصحاب السلطة، مذكّرة إيانا بأن الشفافية والمساءلة ليسا مجرد مصطلحات تُكتب بحبر شفاف.
أخنوش، الذي يجمع بين لقبه السياسي ولقب رجل أعمال، كما تخلط مقادير شاي مغربي بنكهة رأس المال، يردّ على انتقادات مسو بنبرة تتحدث عن التنمية وكأنه بصدد الإعلان عن فيلم خيال علمي بدلاً من واقع محلي يستطيع الجميع رؤيته.
من نافذة نظرية النخبة، يبدو أن تدبير مدينة أكادير، ومن خلالها المغرب، يدور في حلقة مفرغة لا تنتهي، حيث يحتكر أصحاب الياقات البيضاء لعبة السلطة والموارد، بينما تدور الأغلبية في فلك الأماني والمطالب الممنوعة.
ويبدو الأمر كله كصراع بين نادٍ خاص من النخب، تحرسه الأوليغارشية بأنيابها الحادة من الفساد والتلاعب، وبين لاعبين هواة يحاولون اقتحام الملعب بكراتٍ مثقوبة. أما الجمهور، فقد أصبح أكثر وعيًا بأن اللعبة محكومة بقواعد لا يمكن تغييرها إلا إذا تسللت مفاتيح السلطة إلى جيوبهم بدلاً من خزائن النخبة.
الحاصول..
شكرا لك رجاء. فقد أسقطت كلماتك المنتقاة عن علم ودراية، وصمودك في موقع الدفاع عن حق المشاركة وحق التعبير، ما حاولت أن تنجزه سنوات من حملات التلميع التواصلية…
شكرا لك لإسقاط أقنعة “لي سينيور”!