أشرف حكيمي.. من خيطافي إلى عمادة المنتخب المغربي
ص
ص
بعد أن أثبت علو كعبه في كل مراحل مسيرته الكروية التي بدأها بشكل مبكر، كانت الألعاب الأولمبية في باريس خلال الصيف الماضي محطة جديدة اكتشف فيها المغاربة وجها آخر للاعب منتخبهم الوطني أشرف حكيمي، وجه القائد والعميد ذي الشخصية الكاريزمية التي تحرص على روح المجموعة، وتنوب عن المدرب في توجيه زملائه من داخل رقعة الميدان.
ما فعله حكيمي مع المنتخب الوطني الأولمبي من مساهمة فعالة كعميد وكقائد في تحقيق إنجاز غير مسبوق للكرة المغربية بالفوز بالميدالية البرونزية، زاد من تعزيز مكانته الرفيعة في قلوب المغاربة، خصوصا في صفته القيادية، الشيء الذي جعلهم يرونه الأحق بحمل شارة العمادة حتى في المنتخب الأول، والإستفادة من قدراته التواصلية وتجربته التي راكمها منذ سنوات داخل النخبة الوطنية في المنافسات القارية الإفريقية، والعالمية من خلال كأسي العالم اللتان لعبهما رغم حداثة سنه.
قصة أشرف حكيمي مع كرة القدم، وظروفه الأسرية التي صنعت منه هذا النجم الذي نراه اليوم، ملهمة للكثير من الفتيان الذين يطمحون مستقبلا للذهاب بعيدا في مسارهم الرياضي، فليس من السهل أن يخرج طفل من أسرة مهاجرة بسيطة، ليقاوم كل معيقات الحياة ويصل إلى قمة المجد والشهرة والغنى، ويحافظ في الوقت نفسه على بساطته وتواضعه وخلقه الرفيع، ويموت حبا في بلاد أصوله التي لم يزدد فيها، ويلبي نداءها في كل وقت وحين.
الإبن البكر لسعيدة وحسن
في إحدى صباحات نهاية صيف سنة 1989، كانت سعيدة موح تتجه من مدينة القصر الكبير مسقط رأسها إلى ميناء طنجة رفقة عائلة متعددة الأفراد مقيمة في ضواحي العاصمة الإسبانية مدريد، كانت الفتاة الخجولة تريد عبور مضيق جبل طارق بطريقة سرية، وبطلب من الأسرة المذكورة، في زمن كانت عملية العبور لا تخضع لكل إجراءات التفتيش التي تعرفها اليوم موانئ عبور المهاجرين المغاربة في عطلتهم السنوية.
في اليوم الموالي كانت الفتاة سعيدة تجلس في شقة بمنطقة خيطافي قرب مدريد، وهناك بدأت حياة جديدة شمرت فيها عن ساعديها واشتغلت في مهنة تنظيف المنازل لسنوات طويلة، قبل أن تلتقي هناك بشاب إسمه حسن حكيمي ينحذر من مدينة واد زم المغربية ويعمل بائعا متجولا، وبسرعة تواعدا على الزواج وتكوين أسرة يتعاونان فيها على مصاعب الحياة في الغربة وإكراهاتها المتعددة.
عام واحد بعد زواج سعيدة وحسن، رزقا بإبنهما البكر في الرابع من شهر نونبر من سنة 1998، واختارا له من الأسماء أشرف، ثم بعده بسنتين جاء إلى الدنيا شقيقه نبيل، ثم تلته بعد رذلك بثلاث سنوات شقيقتهما وداد لتكمل عقد الإخوة حكيمي.
الأم.. سر النجاح
كانت سعيدة موح من صنف الأمهات المكافحات اللواتي يهبن كل حياتهن لأبنائهن، لقد زاوجت بين رعاية صغارها الثلاثة بكل صعوباتها، وبين العمل خارج البيت كمنظفة في المنازل ومداخل العمارات في منطقة خيطافي، في الوقت الذي كان زوجها حسن يغيب معظم اليوم في العمل متجولا بين الأسواق الأسبوعية في بلدات الضاحية المدريدية، كانت سعيدة تنهي عملها على عجل للذهاب لجلب أبنائها من المدرسة والعودة بهم إلى البيت، والإصرار على أن يؤدون واجباتهم المنزلية قبل السماح لهم بالخروج للعب مع أقرانهم بالحي في الفضاءات القريبة من المنزل.
في هذه المرحلة بالذات توطدت علاقة أشرف بأمه وازداد قربه منها، مثلما هو الحال مع أخيه وأخته.. لتصبح ملهمته في الكفاح والتضحية والتواضع ودماثة الخلق.
طفل رياضي
كان حكيمي طفلا نشيطا كثير الحركة، ولم تكن المدرسة تستهويه رغم حرص والديه على أن يكمل تعليمه الثانوي ويتوجه إلى الجامعة. بينما كان حب الرياضة من اهتماماته المفضلة، فمارس السباحة، ثم ألعاب القوى، وبرزت أولى ملامح موهبته كعداء، ومع ذلك، أدرك أن شغفه يكمن في كرة القدم، التي كان يمارسها بانتظام مع رفاقه في الشارع، ولم يرغب في شيء سواها.
لم يوافق والداه بداية على اختياره، وبعد ذلك تصالحا مع حقيقة أنه وجد هدفا في كرة القدم يحميه من آفات الإنحراف والإنسياق إلى عوالم الإدمان على المخدرات التي يسقط فيها كثير من أبناء المهاجرين، إذ رغم نشأة الأسرة البسيطة، فقد ركزا على دعم موهبة ابنهما الأول الكروية، وكانا يضحيان بجهدهما وبما يملكان من أجل تمكينه من التدريب وممارسة كرة القدم.
موهبة كروية مبكرة
بدأت مسيرة حكيمي الكروية في عمر السابعة بفريق الحي كولونيا أوفيجيفي، ثم انضم عام 2006 وعمره 8 أعوام إلى أكاديمية “لافابريكا” التابعة لفريق ريال مدريد، وتدرج في مختلف فئاته لمدة 9 سنوات.
وقال والده حسن حكيمي في لقاء صحافي مع قناة “تيلي مدريد”، إنه لما لاحظ طموح إبنه ليكون لاعبا محترفا، كان يضحي بيوم عمله ليقطع مسافة 100 كيلومتر من أجل أخذ أشرف إلى الأكاديمية وإعادته، وكان يذهب يوميا من الساعة 4 مساء إلى 10 ليلا.
وارتقى بعد ذلك، إلى الفريق الاحتياطي لريال مدريد في يونيو 2016. ثم إلى الفريق الأول في جولة تحضيرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك شارك لأول مرة مع الكبار في مباراة أمام باريس سان جيرمان.
وعاد إلى الفريق الاحتياطي وقدم معه موسما مميزا. وكان قد لعب 28 مباراة، وسجل أول أهدافه يوم 25 شتنبر 2016 في مباراة ضد فوينلابرادا.
صغير في النادي الملكي
كان حكيمي قد شارك في المعسكرات والدورات التدريبية لفريق ريال مدريد بطلب من مدربه زين الدين زيدان. وعام 2017، ضمه بشكل رسمي إلى الفريق بديلا للاعب الإسباني كارفخال، وهي الفرصة التي فسحت المجال لميلاد نجم مغربي.
كان أول ظهور رسمي لحكيمي مع النادي الملكي في الأول من أكتوبر2017 في مباراة ضد نادي إسبانيول. وفي التاسع من دجنبر 2017 سجل أول أهدافه بقميص ريال مدريد في مباراة فاز فيها الملكي 5–0 على إشبيلية، وهو لم يتعد بعد 19 عاما.
وتحدث زيدان حينها بإعجاب عن حكيمي، وقال “أنا سعيد بظهوره الأول، لأنه بالنسبة له يوم مهم. لقد لعب مباراة رائعة سوف يتذكرها بقية حياته”.
بينما حكى أشرف كيف شجعه زيدان، عندما اتصل به وأخبره أنه سيلعب، ووجهه بأن يبقى هادئا خلال المباراة.
وقال “أنا سعيد جدا بظهوري الأول في أفضل ناد، إنه يوم لن أنساه أبدا”.
وعن علاقته بزيدان، قال “إنه مدرب يقدم لي دائما النصائح الجيدة، ودوما يجعلني أشعر بأنه يريد الأفضل لي كما لو كنت ابنه.. وأنا ممتن جدا لمنحي فرصة اللعب لريال مدريد”.
وأضاف “بالنسبة لي كان قدوة رائعة، لقد كان لاعبا عظيما كما أثبت أنه مدرب ممتاز”. وبقي حكيمي ممتنا لمدربه الفرنسي السابق، وقال إنه “كان أكثر من ساعده في تطور أدائه”.
تنقل بين الكبار
كانت تجربة حكيمي مع الريال قصيرة، لكنها كانت طريقه نحو الاحتراف الدولي. ففي صيف 2018، وقع عقدا لمدة عامين مع فريق دورتموند الألماني على سبيل الإعارة، وأنهى تجربة ناجحة تحول فيها إلى أحد أفضل الأظهرة في العالم بمساهماته الهجومية المستمرة وسرعته الكبيرة.
وفي يوليوز 2020، وقع مع فريق إنتر ميلان الإيطالي على عقد مدته 5 سنوات بقيمة 45 مليون يورو، وبعد موسم واحد فقط، كان فيه أفضل مدافع هداف في تاريخ الفريق، انتقل في صيف 2021، إلى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي مقابل 70 مليون يورو، بعقد يستمر حتى عام 2026، وأصبح أغلى لاعب عربي في تاريخ كرة القدم، وثاني أغلى لاعب إفريقي بعد النجم النيجيري فيكتور أوسيمين.
عشق للأصول
كان أشرف حكيمي في سن 17 عاما و11 شهرا، عندما تلقى بفرح بالغ دعوة المدرب الفرنسي هيرفي رونار للانضمام إلى المنتخب المغربي. وكان حينها ثاني أصغر لاعب في تاريخ أسود أطلس بعد هاشم مستور.
حاول سابقا الانضمام إلى منتخب إسبانيا لأقل من 19 سنة، والتحق به لمدة يومين، لكنه اكتشف أنه لم يكن المكان المناسب له. ووضح بجرأة وصراحة “شعرت وكأنني في مكان غريب. ليس لسبب معين، لكن هذا ما شعرت به. لم تكن الأجواء مشابهة لما عشته في بيتي من ثقافة أخرى، لكوننا مغاربة”.
أشرف وبعد مرور حوالي ثماني سنوات على أول مرة يحمل فيها القميص الوطني، يزداد عشقا وتعلقا بوطنه الأصلي، ويبدي استعداده للتضحية بكل المغريات التي تقدمها الأندية الغنية من أجل أن يلبي نداء البلاد في كل المناسبات وفي كل الظروف والأجواء التي تحتاجه فيها.. ولكل هذا الإرتباط الجميل وهذا التفاني في المسؤولية وفي أداء الواجب الوطني، الجميع في المغرب وخارجه لم يعد يرى لاعبا في المنتخب الوطني يستحق شارة العمادة أكثر من أشرف حكيمي.