أسفي على آسفي
آسفي غرقت. هذه الجملة التي رددها أهل المدينة وهم يصورون بأياديهم المرتجفة مياه الوادي وهي تقتحم الأزقة والدكاكين وبيوت الناس، ليست مجرد توصيف لحظة عابرة، بل نعيٌ لواحدة من مدن المغرب التي تُدفن حيّة تحت طبقات من الإهمال وسوء التدبير واحتقار حياة البشر.
في أقل من ساعة من التساقطات الرعدية، تحوّل واد الشعبة إلى وحش قديم خرج من سباته، وجرف في طريقه عشرات الأرواح في حصيلة غير نهائية، وأغرق ما صادفه في مجراه من بيوت ومحلات تجارية، وحمل السيارات وقطع الطرق، وشلّ حركة مدينة كاملة.
الرقم في مثل هذه الفواجع ليس سوى بداية السؤال، لا نهاية الجرد. من ماتوا غرقا، ومن كادوا يغرقون، ومن فقدوا بيوتهم وأرزاقهم، ومن باتوا تلك الليلة في العراء، ومن شاهدوا أبناءهم يتشبثون بأبواب العمارات وبلاعات الواد الحار كي لا يجرفهم التيار… كل هؤلاء ضحايا، حتى وإن لم تُحصِهم بلاغات رسمية باردة تلخص كل شيء في عبارة: “تساقطات استثنائية”.
في باب الشعبة، حيث واد الشعبة يلامس قلب المدينة القديمة، شاهد المغاربة فيديو واحدا يكفي ليختزل معنى ما جرى: امرأة مسنة، بائعة فخار من ذلك الجيل الذي نحت الطين بيديه، عالقة وسط السيل، تتشبث بجدار وتصرخ “شادة غير فالحِيط… عتقوني!”.
يمدّ لها الجيران حبلا، يشدونه بأيدي مرتجفة، يسحبونها من فم الموت. تنجو، لكنها تخبرنا والدموع على وجهها أن السيول خطفت زوج ابنتها وأخته. لقد رأَت هذه السيدة الموت أمام عينيها، ورأينا معها كيف يتحول الحيّ، الذي يفترض أن يكون مأوى، إلى مصيدة مفتوحة على المقبرة.
آسفي، المدينة التي أنجبت الفخار والملح والبحر والصوف، والتي جعل منها واد الشعبة منبع الطين وصناعة الخزف وذاكرة سياحية وحضارية، عاشت مع هذا الوادي قرونا من الخوف والحذر.
تاريخ المدينة محفوظ بسنوات الفيضان: 1791، و1855، و1901، ثم “عام الديكة” سنة 1927، حين باغت السيل الناس وهم نيام وجرف عشرات الأرواح.
مع تلك الفواجع، ضغط السكان على سلطات الحماية الفرنسية لتهيئة مجرى الوادي وتحويل جزء من مياهه بعيدا عن قلب المدينة، فأنشئت قنوات وتصريفات أنقذت أسفي لعقود من تكرار الكارثة.
لكن ما فعلته الهندسة الاستعمارية قبل قرن، أفسدته “التنمية الوطنية” في عقود قليلة. واد الشعبة لم يعد مجرد مجرى موسمي يخترق سفح المدينة، بل صار محاطا بأحزمة من البناء العشوائي، وأحياء تمددت على عجل في غياب رؤية عمرانية، وفي ظل تغاضي سلطات محلية وجد فيه بعض أعوانها ومضاربو الوعاء العقاري فرصة ذهبية لتحويل مجاري الماء إلى تجزئات سكنية.
ما جرى في آسفي ليس غضب سماء، بل فضيحة أرض. وفي قلب النقاش، ينتصب ذلك الجدار الإسمنتي المشيّد بمحاذاة الواجهة البحرية، والذي قُدِّم قبل أشهر كمشروع لحماية المدينة من تآكل الساحل والأمواج العاتية.
تقارير رسمية تحدثت عن مشروع حماية وتثمين الساحل بكلفة تناهز 139 مليون درهم، لإنشاء منشأة وقائية بطول يقارب 250 مترا، بتعاون بين الداخلية والتجهيز والثقافة والجماعة والجهة، وبالقرب من معلمة “قصر البحر” البرتغالية التي تخضع هي الأخرى لأشغال ترميم معقدة.
كل ذلك يبدو جميلا على الورق، لكن ما لم يُحسَب الحساب له هو أن الجدار، كما يرى بعض السكان، أغلق منافذ طبيعية كانت تسمح للماء بأن يجد طريقه إلى البحر، وحوّل الطريق الساحلي إلى سد يعيد السيول إلى الأحياء المنخفضة.
هل ساهم الجدار في تضخيم الكارثة؟ هل غيرت أشغال الترميم قرب قصر البحر ومحيطه ممرات الماء وحرمت الوادي من منفذ طبيعي؟
لا نملك اليوم أجوبة حاسمة، لكننا نملك ما يكفي من الأسئلة لنطالب بتحقيق جدي، يضع على الطاولة كل الخرائط القديمة والجديدة، ويجيب بصراحة: من اتخذ قرار البناء بهذا الشكل؟ ومن وقّع على الدراسات؟ وهل أُجريت أصلا دراسات تُلزم بها أبسط مشاريع السدود الصغيرة، فكيف بمشروع على فم واد تاريخي يعرف الجميع أنه حين يغضب لا يرحم؟
لا يكفي أن تُعلن السلطات بعد الكارثة عن “تعبئة شاملة”، و”تعليق الدراسة حفظا لسلامة التلاميذ”، و”استمرار البحث عن مفقودين محتملين”، كما ورد في البلاغات الرسمية. هذه إجراءات ضرورية في الساعات الأولى، لكنها لا تجيب عن جوهر السؤال: لماذا وجدت أصلا بائعة فخار في السبعين من عمرها نفسها تتشبث بحائط كي لا تجرفها مياه واد تعرف المدينة مزاجه منذ قرون؟ ولماذا تحولت الشوارع إلى قنوات لتصريف الموت بدل تصريف الماء؟ ولماذا يغدو البيت فخا، والشارع فخا، والدكان فخا، وكل ما يفترض أنه مرافق حياة في المدينة المعاصرة يتحول إلى مصائد جاهزة عند أول اضطراب جوي؟
آسفي لم تغرق لأنها مدينة فقيرة، بل لأنها مدينة مهمّشة ومُستغَلّة في آن. مدينة تُستنزف ثرواتها البحرية والمنجمية، وتُستعمل واجهتها البحرية ومآثرها التاريخية في الاستثمار والسياحة، بينما تُترك أحياؤها الشعبية لتدبر أمرها مع البناء العشوائي وشبكات التطهير المهترئة ومجاري الأودية المنسية.
والأخطر من ذلك أن آسفي ليست استثناء. من طنجة إلى الداخلة، نعرف هذا السيناريو جيدا: مشروع “تحديث” هنا، جدار إسمنتي هناك، توسع عمراني بلا روح ولا دراسة، ثم تأتي أول عاصفة مطرية لتكشف أن ما شُيّد لم يكن مدينة بل فخا كبيرا.
خصوصية أسفي أنها مدينة تحفظ في ذاكرتها الطويلة أسماء فيضانات تعود إلى قرون، ومع ذلك نجد أنفسنا في 2025 نغرق في المكان نفسه، بالطريقة نفسها، مع فارق واحد: أن عدد المهندسين والمكاتب والدراسات والصفقات تضاعف عشرات المرات.
وحده واد الشعبة يذكرنا، كلما تجمعت الغيوم في سماء الأطلسي، بأن المدن التي تُبنى على الاستخفاف بحياة سكانها، يكفيها “شوية ديال الشتا” لتغرق في وحل سياساتها قبل أن تغرق في ماء سمائها.