story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أسطورة الشعب الصحراوي

ص ص

بعد القرار الأخير لمحكمة العدل الأوربية، الذي نزع الشرعية عن اتفاقيات تجارية بين المغرب والاتحاد الأوربي بسبب اشتمالها بنودا تتعلق بمنتجات مصدرها الصحراء الغربية-المغربية؛ بات ضروريا الانتباه إلى مفهوم “شعب الصحراء” الذي كان من المرتكزات الأساسية لهذا القرار.

ولا يتعلّق الأمر هنا بمجرّد الحاجة إلى المجادلة القانونية ودحض الحجج التي يمكن أن يقدّمها الخصوم، بل بضرورة تفكيك الأساطير المؤسسة لمشروع الانفصال الذي زرع الاستعمار الأوربي بذوره قبل رحيله. ولا حاجة للتذكير بأن مسألة “الأرض الخلاء” كانت من بين هذه الأساطير، تماما كما شكّلت مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” أسطورة مؤسسة للمشروع الصهيوني في فلسطين.

الآن وبعد عقود من الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، وثبوت تهافت هذه الأساطير التي كانت ترمي إلى قطع الصلة التاريخية بين الصحراء والمغرب، من خلال نفي أي وجود سابق على الاستيطان الاستعماري في المنطقة، وزعم غياب أية سلطة سياسية مغربية فيه، بات مفهوم “شعب الصحراء” من الأساطير الجديدة التي يجدر بالمختصين والأكاديميين التصدي له بالأدوات العلمية.

فأول من استعمل لفظ “شعب الصحراء” كان هو وزير الإسكان الإسباني في حكومة فرانكو بمناسبة زيارته للعيون في أعقاب أحداث الزملة، أي تلك الانتفاضة الشعبية التي حصلت في يونيو 1970 غير بعيد عن مدينة العيون الحالية، وارتكبت فيها إسبانيا مجزرة في حق المدنيين الثائرين عليها.

لحسن الحظ هناك أشخاص نذروا أنفسهم لقضية الصحراء، مثل الباحث والحقوقي عبد المجيد بلغزال، والذي عمل منذ شهور على إعداد وثيقة شاملة و”مطروزة”، بأسلوب موضوعي وارتكاز تام على الحجج والوثائق.

الوثيقة التي ننفرد بنشر نصها الكامل والمطوّل (عشرات الصفحات) في عددنا الجديد من مجلة “لسان المغرب” الذي يصدر مساء اليوم الجمعة 10 يناير 2025، تتمحور حول سؤال مركزي يتعلّق بمدى إمكانية نجاح مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، لكنّ من بين ما استوقفني فيه وأنا أقوم بالقراءة وتحضير الوثيقة للنشر، هو الجزء المتعلّق بمفهوم “شعب الصحراء”.

ينطلق بلغزال من تسجيل ما يؤخذ على إعلان منح الاستقلال، الصادر بموجب قرار الجمعية العامة رقم 1514، بتاريخ 14 دجنبر 1960، لأنه لم يحدد بشكل دقيق مفهوم “شعب” ولا مضمون تقرير المصير ولا الوسائل اللازمة لتنفيذه، ذلك أن لفظة كل “الشعوب” الواردة فيه غير دقيقة.

يترتب عن هذا الغموض إمكانية خلق كيانات جديدة، خاصة عندما يتم استعما لمفهوم آخر هو “الشعوب الأصلية”، مما قد يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وهذا يعني أن المبدأ بصرف النظر عن الغموض الذي لازمه في تصريح الاستقلال أو في العهدين الدوليين لحقوق الإنسان، إنما كان غموضا مقصودا لتلبية التوازنات الدولية.

وتثبت وثيقة بلغزال كيف أن كل الوثائق والمرجعيات القانونية المتعلقة بملف الصحراء، لم تتضمن مفهوم “الشعب”، بل كانت تستعمل مفهومي “ساكنة” و”سكان الصحراء”، باعتبارها مجرد بنيات اجتماعية تشكل امتدادا طبيعيا لسكان شمال المغرب. كما أن وثائق مخطط التسوية (1990)، بجميع مراحل مراجعاتها، ارتبطت برهان اجراءات وتدابير “تحديد الهوية” باعتبارها المدخل المركزي لمعرفة الهيأة الناخبة المشكلة “لساكنة الصحراء”، وليس “شعب الصحراء”.

ويقدّم بلغزال عددا من المراجع العلمية، التي تبيّن كيف أن إقليم الصحراء يتشكّل من مجموعات بشرية مختلفة انصهرت على مدار قرون، مكوناتها الأمازيغية والافريقية مع المجموعات العربية الوافدة، إما بفعل المصاهرة أو التجارة والترحال أو بفعل الديناميات التي واكبت نشر الإسلام… وكيف سيتحوّل امتزاج وانصهار هذه المجموعات القبلية المختلفة، بشكل تدريجي إلى قاعدة خلفية مركزية لخلق وإسناد الانعطافات الكبرى في تاريخ السلالات التي تداولت على حكم المغرب، أحد عناوينها الكبرى من خلال تأسيس دولة المرابطين.

وفي الوقت الذي يحاول فيه البعض تأسيس فكرة الانفصال على العنصر العرقي، باعتبار “الثوار” عربا متمرّدين على أمازيغ قادمين من الشمال (شليحات)، تبيّن الوثيقة كيف احتفظ المجال الصحراوي عموم٫٫ ومجال إقليم الصحراء بشكل خاص٫ بما كان يطلق عليه من أسماء خلال الفترة الأمازيغية خاصة أسماء الأماكن من وديان وجبال وسهوب.

من دلائل هذا ذلك ارتباط الحرف التقليدية وكل ما يتصل بالعمل اليدوي بحقل دلالي أمازيغي، وارتباط الشعر أو “لغنى” الذي هو في الأصل ديوان البنيات الاجتماعية في الصحراء من حيث بنياته الإيقاعية والموسيقية بالمكون الأمازيغي الصنهاجي، إلى جانب ارتباط البنيات الاجتماعية السائدة بالإقليم والصحراء بشكل عام بأصولها الممتدة بوسط وشمال المملكة.

يضاف إلى ذلك تضارب الأرقام بخصوص إجمالي سكان الصحراء، حيث كانت جبهة البوليساريو في بداية تأسيسها، تروج لرقم يتحدث عن مليون نسمة، فيما يتحدّث الراحل علي يعثة في كتابه “الصحراء المغربية الغربية”، على أن عدد سكان الصحراء، كان قبل الاحتلال الاسباني يبلغ 200 ألف نسمة، أما بعد الاستعمار فإنه تراجع إلى 60 ألف نسمة بفعل عمليات التهجير التي طالت السكان في أعقاب حرب إكوفيون التي تم فيها القضاء على المقاومة سنة 1958.

وفي أحدث المرجعيات الأممية، يورد عبد المجيد بلغزال مخطط التسوية المتضمن في الوثيقة S/21360 بتاريخ 18 يونيو 1990، والذي تم التأكيد عليه في الوثيقة S/22464، الصادرة بتاريخ 19 أبريل 1991 عملا بالقرار 658 )1990(؛ حيث إن هذه الوثائق التي تعد بمثابة الإطار القانوني المرجعي المعتمد من طرف الأمم المتحدة كقاعدة لإجراء الاستفتاء، استندت إلى ما تسميه بشكل علني وواضح “سكان” أو “ساكنة الصحراء الغربية”، ولم يرد في هذه الوثائق بالمطلق ما يفيد أن بالإقليم “شعبا”.

بل إن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بيريس دي كويير، والذي ارتبط المخطط باسمه، قال في أحد تقاريره إن سكان هذا الإقليم، وبسبب طريقة عيشهم البدوية، يتنقلون بسهولة عبر الحدود إلى البلدان المجاورة، حيث يستقبلهم أفراد قبائلهم أو حتى أفراد أسرهم. ويذهب إلى أن ذهاب السكان وإيابهم عبر حدود الإقليم يجعل من الصعب إجراء إحصاء كامل لسكان الصحراء الغربية ويخلق مشكلة معقدة في تحديد هوية صحراويي الإقليم ويزيد من صعوبة إجراء استفتاء اللاجئين يدعوا إلى الرضا.

وسيتأكد ارتباط مخطط التسوية ب”السكان” أو “الساكنة” من خلال الرأي الاستشاري لوكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية في رسالة موجهة بتاريخ 29 يناير 2002، حيث جاء في الفقرة التاسعة منه: “…فهذا الرأي الاستشاري بصرف النظر عما يتطلبه من تدقيق، فإنه يؤسس رأيه على مصالح سكان الإقليم، وليس على إرادتهم ولا على مفهوم “شعب””.