أزمة طلبة الطب: العصا بلا جزرة
هل نصدق ما يقع في كليات الطب والصيدلة، أم أن الأمر مجرد كابوس جاثم على صدور الوطن طيلة 10 أشهر؟ فأكثر المتشائمين لم يتوقع أن تبارح الأزمة مكانها، وأن يبلغ الاحتقان هذا المدى في ظل هدوء مسؤولي الوزارة الوصية، واستمرار الحكومة ثابتة على موقفها.
دعونا الآن نراجع سيناريو الأزمة، ونتمعن في تحولاته التي جعلته لا يبارح مكانه، بل تغرق تفاصيله في براثن التعنت وحوار الصم والبكم.
بداية، جاء تنزيل الإصلاح البيداغوجي الجديد الذي قررت وزارة التعليم اعتماده بشكل عمودي. وإذا كانت أبجديات تخطيط ورسم السياسات العمومية التي تلقيناها في مدرجات الجامعات تركز على اعتماد مبدأ الحاجيات الأساسية المعبر عنها من الفئة المعنية للمواطنين، والاستجابة لتطلعاتهم وانتظاراتهم، واعتبارها أولوية قبل التخطيط وعند التنفيذ مع ضرورة استشارة الهيئات الممثلة لهم، فالحالة عندنا أن الوزارة استعملت سلطة التقرير والوصاية على سلطة منبعها الأصلي هو المواطن. وكما رأينا مؤخرا في الدفع دونما استشارة بقرار الدمج الموقوف بين الكنوبس وصندوق الضمان الاجتماعي، أقدمت الوزارة على تحريك مياه الإصلاح الراكدة، متناسية مخرجات الأزمة السابقة لسنة 2019. وهكذا، وكمن لا يتعلم من دروس الحراك الطلابي، رد الطلبة بإضراب مفتوح مازالوا يتجرعون آلام تحمله في معركة كسر الهمم.
ما الذي أقلق الطلبة ودفعهم لرفض المشروع؟ يرد الطلبة ببساطة أن تقرير مصير تكوين أكاديمي ومهني لا يخضع لمزاجية السلطة الوصية ورغبتها الدفينة في وقف التدفق المتعاظم لأفواج الخريجين نخو الخارج. لا يمكن القبول بأي حال من الأحوال باعتماد سياسة بيداغوجية تقلص مدة التكوين الأكاديمي والمهني، والتهديد بالعصا دونما وجود للجزرة. لا يمكن وضع طلبة النخبة الذين ننتظر تحملهم مسؤولية ترميم قطاع الصحة وإنجاح مشاريع التغطية الاجتماعية، رهينة بين أيدي نظام تكويني يعاني اختلالات بنيوية من حيث نسب تغطية التداريب وتأطير الأساتذة ومباريات الإقامة الملغاة ومناصب التخصص المحدودة، وغياب هندسة تركز على طب الأسرة. من العيب في نظر الطلبة اعتماد المقاربة الكمية التي تدفع بالرفع من أعداد أطباء المستقبل دونما توفير التكوين المناسب، إلى حد خوض الطلبة سباقات سرعة صباحية بين صفوف المدرجات وأروقة المستشفيات الجامعية، على أمل تسجيل ملاحظات محاضرة جامعية أو استراق شروحات الطبيب المسؤول على كتيبة المتدربين. 25 ألف طالب وطالبة يحملون آمال ما يعادل هذا الرقم من عائلاتهم، وظهيرهم في الأمل 40 مليون مواطن مغربي يتابعون باستغراب مآلات أزمة تتعاظم نتائجها لتشكل سابقة السنة البيضاء في تاريخ التكوين العلمي والأكاديمي المغربي.
لقد توالت الوساطات من لجان برلمانية وفرق حزبية، وآخرها تدخل مؤسسة الوسيط، غير أن الأزمة مازالت مستمرة بالنسبة لطلبة الطب رغم انفراجها بالنسبة لطلبة الصيدلة. فالحكومة مصرة على تنزيل مقترح تقليص سنوات الدراسة، واستمرار قرارات توقيف بعض الطلبة وفصلهم بمبرر قيادتهم للاحتجاجات الطلابية، بل تستعمل لغة الوعيد والتهديد بالنسبة للامتحانات الاستدراكية مقترحة بشكل متسلط إجراءها في دورة واحدة لفصلي مدة الإضراب من غير إمكانية للاستدراك. ويستمر مقترح الإذعان بفرض استرجاع 10 أشهر من التداريب الميدانية قبل إنهاء المسار التكويني، مما يلغي شرط 6 سنوات بطريقة أتوماتيكية. الخلاصة الواضحة أن الحكومة تحمل مسؤولية الأزمة للطلبة فقط، وتعلل حسب الطلبة موقفها بالكلفة السياسية وهيبة الدولة المهدورة، متجاوزة منطق سيادة إرادة المواطن لكونه منبع الشرعية والمؤسس لها وفق أبجديات الأنظمة الديمقراطية، بل حتى الديكتاتورية منها.
إن القراءات المتأنية في إصرار الوزارة على خططها واعتمادها مبدأ العصا من دون جزرة تحيل على محاولة لفرض تغيير في بنية الممارسة الطبية في المغرب. فمهنة الطبيب التي تصنف مهنة حرة في طريقها إلى التحول التدريجي لمهنة ذات أغلبية مشتغلة في بنيات استشفائية رأسمالية، مادامت المؤسسات العمومية غير قادرة على استيعاب الخريجين. ومن خلال نقاشات مع المشتغلين في القطاع العام، من المحتمل المرور إلى منطق الأجور حسب العملية الاستشفائية كما هو الحال في القطاع الخاص، والعمل على تجميع البنيات في مؤسسات ضخمة مع التقليص من عدد العيادات الخاصة. يتذرع المتحمسون لهذا التحول بتوسع وعاء التغطية الصحية وارتفاع المستفيدين مما يفتح أفقا للاستثمار المادي في القطاع، والذي يحتاج للرأسمال البشري. وإن بدا الأمر مفيدا في ظاهره بتوفير العلاجات للمواطنين، غير أن باطنه يخفي تحويلا سريعا يكرس تسليع الصحة العمومية وخضوعها لمنطق الرأسمال الجشع، والذي يكرس انغماس الخيار الاستراتيجي في منطق الخوصصة والقضاء على الصحة العمومية.
ما يهمنا في هذه اللحظة المفصلية، هو مصير هذه الأطر الطبية الشابة التي التحق بها طلبة الفوج الجديد. فهل تسترجع الدولة هيبتها الحقيقية، وتحافظ على مكانتها السياسية بسلك سبل الحوار بتقديم المصلحة الفضلى للوطن من خلال ضمان حقوق نخبته؟ نأمل أن يجد هذا النداء صدى، ويكشف لنا المستقبل القريب عما يسرنا.