أزمة الماء بالمغرب.. وعود حكومية لا تروي ظمأ المتضررين وحقوقيون يطالبون بالتحرك
بعد ست سنوات متتالية من الجفاف باتت العديد من القرى والمناطق الجبلية بالمغرب تعيش على وقع “العطش ونقص حاد في المياه”، إذ يواجه سكان هذه المناطق صعوبات يومية في الحصول على حاجياتهم الأساسية من الماء الصالح للشرب، بحيث يضطرون أحيانًا إلى التنقل لمسافات طويلة لجلب الماء، أو الاعتماد على الآبار التي جّف بعضها والوديان التي قلّ صبيبها.
يأتي ذلك، في وقت تتحدث فيه الحكومة عن “المشاريع المائية الكبرى والمتوسطة، والبرامج الحكومية التي تستهدف الموارد المائية في أفق سنة 2027″، فضلا عن أن وزير التجهيز والماء، نزار بركة، كشف، يوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 بالبرلمان، أن نسبة ملء السدود بالمملكة “بلغت حاليا 31.6 بالمائة، مقارنة ب 29 بالمائة خلال الفترة نفسها في السنة الماضية”، مشيرا إلى أن هذه الأرقام “تعكس تحسنا طفيفا في الموارد المائية”.
غير أن هذا الخطاب الحكومي حول أزمة شح المياه التي تخيم على سماء المغرب منذ سنوات، لا يوجد له صدى لدى فئات واسعة من المواطنين أصبحت تعيش أزمة حقيقية بسبب قلة هذه المادة الحيوية النادمة عن توالي سنوات الجفاف من جهة، وسوء تدبير الفرشة المائية بالاعتماد على مزروعات تصديرية مستهلكة للمياه من جهة ثانية.
وفي هذا الإطار، تطالب فعاليات مدنية وحقوقية، بوضع خطة وطنية استعجالية لضمان تزويد المناطق المتضررة، بالماء الصالح للشرب، وإعادة النظر في السياسات المائية الحالية بما يضمن العدالة المجالية والاجتماعية، وحماية الأمن الغذائي والمائي للمواطنين في القرى والمناطق النائية.
“مناقضة الأرقام الرسمية”
وفي السياق، قال محمد الديش، المنسق الوطني للائتلاف المدني من أجل الجبل، إن المعطيات الميدانية والتظلمات الواردة من مختلف المناطق الجبلية تؤكد استمرار معاناة عدد من الدواوير والتجمعات السكنية مع غياب الماء الصالح للشرب، “في تناقض واضح مع ما صرّح به وزير الداخلية سابقاً، حين قال إنه لا يوجد دوار غير موصول بالماء”، وهو تصريح حسب قوله “يتحدى الواقع تماماً”.
وأوضح الديش في تصريح لصحيفة “صوت المغرب” أنه حتى بعض المناطق التي تتوفر على نقاط مياه محدودة تعرف انقطاعاً متكرراً أو ضعفاً في التدفق، فيما يعتمد سكان مناطق أخرى على الآبار والوديان إن وُجدت، وينتقلون لمسافات طويلة من أجل تلبية حاجاتهم اليومية من الماء.
وأضاف المتحدث أن هذه الأزمة تفاقمت بفعل التغيرات المناخية والجفاف والاستنزاف المفرط للموارد الطبيعية، فضلاً عن بعض الاستغلالات الفلاحية التي لا تراعي ندرة المياه. مشيراً إلى أن مناطق كانت معروفة بوفرة مواردها المائية أصبحت اليوم تعيش حالة عطش حقيقية بسبب هذا الاستنزاف الكبير.
وأكد أن “الائتلاف سبق أن نبّه مراراً إلى أن عدداً من المناطق التي أُقيمت فيها سدود كبيرة أصبحت تعاني العطش”، كما أن الفرشات المائية الجوفية في مناطق أخرى تقلصت مواردها بشكل كبير، ما جعل عملية حفر الآبار تتطلب أعماقاً كبيرة وتكاليف باهظة لا يقدر عليها السكان، إلى جانب تعقيدات المساطر الإدارية الخاصة بالترخيص.
وأشار الديش إلى أن هذا الوضع أدى إلى تزايد الهجرة القروية، إذ لم تعد الأزمة مقتصرة على مياه السقي والمواشي، بل مستّ حتى الماء الصالح للشرب، الذي يُعد حاجة أساسية يومية.
ودعا إلى معالجة عاجلة للمشكل عبر توفير صهاريج المياه بالمناطق المتضررة لتلبية حاجيات السكان والمواشي، مع التفكير في حفر آبار جماعية وضخ مياه من السدود القريبة نحو القرى العطشى، إلى جانب إنشاء محطات صغيرة لتحلية المياه، على غرار ما هو معمول به في دول كالهند وعدد من بلدان إفريقيا.
أما على المدى المتوسط، فقد أوصى المنسق الوطني بضرورة بناء سدود صغيرة في المناطق الجبلية والقروية لتأمين مياه الشرب والسقي، وتطوير تقنيات تخزين المياه صناعياً في الفرشات الجوفية من أجل استغلالها لاحقاً بدل ضياعها في البحر.
وختم محمد الديش تصريحه بالتأكيد على أن التعويل على مياه البحر كخيار وحيد هو أمر غير واقعي، لأن هذه السياسات الحالية التي تتجاهل المناطق النائية والجبلية لن تُمكّن من إيصال المياه المحلاة إلى مناطق مثل الجنوب الشرقي أو فكيك، داعياً إلى ترشيد استعمال الموارد المائية المتاحة والحفاظ عليها باعتبارها ثروة وطنية استراتيجية.
“سياسات عمومية فاشلة”
من جانبه عبر إدريس السدراوي، رئيس الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، عن قلقه البالغ إزاء الوضعية المائية المتدهورة في العديد من القرى والمناطق الجبلية بالمغرب، حيث يعيش عدد كبير من المواطنين عطشًا حقيقيًا ونقصًا حادًا في الماء الصالح للشرب، في ظل تأخر التساقطات المطرية واستمرار موجات الجفاف المتكررة خلال السنوات الأخيرة.
وأكد السدراوي، في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، أن “أزمة الماء الحالية ليست مجرد نتيجة طبيعية، بل تعكس تراكمات السياسات العمومية الفاشلة والاختلالات العميقة في تدبير الموارد المائية، وغياب العدالة في توزيعها بين الفئات والجهات”، مشيرا إلى أن ” كميات كبيرة من المياه تُوجه لمشاريع فلاحية وصناعية كبرى، تعاني القرى والمناطق النائية من العطش والتهميش وغياب البنيات التحتية الأساسية”.
وأعرب عن أسفه لغياب العدالة المائية بين الجهات والفئات الاجتماعية، واستمرار التمييز الصارخ في الاستفادة من مياه السقي، حيث يستفيد كبار الفلاحين والمستثمرين الزراعيين من حصص وفيرة، في حين يُحرم صغار الفلاحين من نصيبهم المشروع، ما يزيد من تفاقم الفوارق المجالية والاجتماعية، خاصة في العالم القروي.
ودعا رئيس الرابطة إلى وضع خطة وطنية استعجالية لتزويد القرى والمناطق العطشى بالماء الصالح للشرب بشكل عاجل ومنصف، وإعادة النظر في السياسة المائية الحالية على أساس العدالة المائية والمجالية، وتوجيه الموارد نحو البنيات التحتية والخدمات الأساسية، وضمان استفادة صغار الفلاحين بشكل عادل، حمايةً للأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية.
كما طالب بفتح تحقيقات نزيهة حول تدبير الموارد المائية ومحاسبة كل من تسبب في سوء التدبير أو التبذير، وتعزيز التربية البيئية وثقافة الاقتصاد في الماء عبر المناهج الدراسية والإعلام العمومي، مع اعتبار الأمن المائي قضية جماعية مرتبطة بالسيادة الوطنية والأمن الغذائي والاجتماعي، وتتطلب إرادة سياسية حقيقية وتخطيطًا بعيد المدى، وإشراك المجتمع المدني والساكنة المحلية في تنفيذ السياسات المائية لضمان استدامتها ونجاعتها.
تفاقم استنزاف المياه الجوفية
وعلاقة بنفس الموضوع، كشف تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، صدر يوم 14 دجنبر 2024، أن بالرغم من الجهود المبذولة لتحديث شبكات السقي الجماعي وتوسيع نطاق استخدام الري الموضعي لتحقيق الاقتصاد في استهلاك المياه، فإن ذلك لم يُمكن من الحد من زيادة الطلب على مياه السقي، التي أدت بحسبه “إلى تفاقم ظاهرة استنزاف المياه الجوفية”.
وأوضح في هذا الجانب، أن المساحة المجهزة بنظام السقي الموضعي بلغت حتى نهاية سنة 2023 حوالي 794 ألف هكتار، أي ما يناهز 50% من إجمالي المساحة المسقية على الصعيد الوطني، مقارنة بنسبة %43% سنة 2020، و9% سنة 2008.
ومن جانب آخر، أشار التقرير إلى أن تنفيذ بعض مشاريع السدود الكبيرة التي شرع في إنجازها قبل إطلاق البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027 عرف تأخرا مقارنة مع توقعات البرنامج، ولا سيما سد مداز إقليم صفرو وسد تاركا أو مادي (إقليم) كرسيف)، وكذا مشروع إعادة بناء سد الساقية الحمراء (إقليم العيون).
ويرجع هذا التأخير، حسب ذات المصدر، إلى فسخ صفقات الأشغال المتعلقة بهذه السدود، وقد تم إبرام صفقات لإتمام الأشغال، حيث تم الشروع في عملية مليء سد مداز منذ فبراير 2024 ومن المتوقع الانتهاء من أشغال السدين الآخرين في سنة 2026.
وبالمقابل كشفت الوثيقة ذاتها أن البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، الذي أطلق سنة 2020، يهدف إلى بناء 21 سدا كبيرا و 330 سدا صغيرا.
وفي غضون ذلك، دعا المجلس، وزارة الداخلية، ووزارة التجهيز والماء، والوزارة المكلفة بالفلاحة، والوزارة المكلفة بالانتقال الطاقي بتطوير التكامل بين عناصر مثلث “الماء الطاقة الفلاحة” بشكل يسمح بالتقائية القطاعات الثلاث، وذلك بهدف التخفيف من حدة الأزمة المائية.