أزمة الإنسانية المعاصرة بين الفوضى المنظمة والفاشية الجديدة

ما مشهد غزّة اليوم بلوحة مأساويّة أخرى تُضاف إلى سجلّ الدم والأنقاض، ولا هو فصل من فصول التراجيديا العربيّة؛ حيث تعود صور البطولة والخذلان في دورٍ لا ينقطع، حتى ليُخال أنّ الدهر قد كتب على هذه الأمة أن تدور في حلقة لا فكاك منها؛ فالأمرٌ أعظم وأبعد غورًا، إذ تتشابك فيه العلل، وتتعانق الأسباب، لتتداخل فيه أحوال الأمم ببنية النظام الدولي، وتمتزج هشاشة البناء في أوطاننا برياح “الفاشية” العاتية التي تجتاح العالم، وتُحدث صراعات الهويّات القاتلة التي تُثخننا جراحًا من الداخل، فهو ما بحادث طارئ ولا واقعة منفصلة في سجل الاحتلال الإسرائيلي، وإنما سيرورة جارية، يجتمع فيها فعل القريب والبعيد، ويتضافر فيها ما هو كامن فينا بما يحكمنا من الخارج، فلا تُفهم إلا من خلال هذا النسيج المتشابك الذي يصوغ مصائر الشعوب ويُدير دفة التاريخ.
إنّ الذي نشهده اليوم هو ضرب آخر في سجلّ العدوان الصهيونيّ، وامتداد لنظام كونيّ يقوم على مبدأ “الفوضى المدبَّرة”، حيث لا تُدار الصراعات بغرض استئصال العدو قضاءً مبرمًا، بل لإمساكه على شفير الهلاك، لا يذوق طعم الموت فيستريح، ولا يُخلى بينه وبين الحياة الكاملة فيحيا عزيزًا كريمًا.
وهكذا لا يُعاد رسم خرائط الصراع، بالغزو المباشر وحده، وإنما بصناعة نظام يُخلِّد الحرب ويجعلها عادةً مألوفة؛ حيث يُصبح الفناء أمرًا يوميًّا، والمجازر أعدادًا تُقيَّد في دفاتر الرعب العالميّ.
وإن تكن هذه “الفوضى المدبَّرة” قد بلغت غايتها القصوى في فلسطين، فما هي بوقفٍ عليها، بل امتداد لعهودٍ استعمارية سالفة، غير أنّها اليوم صارت أدهى وأشدّ إحكامًا، إذ لم تعد هيمنة استعمارية تقليدية، وإنما مشروعًا “ما بعد إنساني”، تُعاد فيه صياغة معاني الحياة والموت، ويُقرَّر فيه من يُؤذن له بالبقاء، ومن يُلقى به قربانًا على مذبح التوازنات الجيوسياسية؛ ففي لجّة هذا المشهد، لا نجد أنفسنا متصدّعين، عن اختلافٍ فطريٍّ في الآراء والمشارب، بل بفعل صنائع مدبَّرة، واستراتيجيات تفكيك محكمة، تلهينا بمعارك الهوية، فيما تُعاد صياغة مصائرنا من غير أن يكون لنا فيها قولٌ ولا فعل.
فأعظم ما أنجزه هذا “النظام الفاشيّ” الجديد، هو قدرته على إعادة سبك العقول، وهندسة وعي المجتمعات المستهدفة، حتى غدت عاجزةً عن الاصطفاف صفًّا واحدًا، ولو في ساعة الفناء. هي لعبة ماكرة، تُعاد فيها تسمية العدوّ، فيُجعل “الآخر المذهبيّ أو العرقيّ” خطرًا داهِمًا، فيما العدوّ الحقيقيّ يواصل تدبير الخراب عن بُعد، يحكم قبضته على المصائر، ولا يُدنّس يديه بدمٍ يُراق، فأضحى القتل عنده صنعةً خفيّة، تُدار بدهاء، لأنه لا يُجهز على الضحية دفعةً واحدة، وإنما يُترك بين الحياة والموت، في مقامٍ لا يُطاق.
لقد ولج العالم طورًا جديدًا من “الفاشية الصهيونية”، يختلف عن فاشيات القرن العشرين، إذ لم يَعُد قائماً على الإبادة المباشرة وحدها، بل بات يستند إلى صنعة أشدّ دهاءً؛ أي إعادة تفصيل الأعداء من داخل المجتمعات نفسها، حتى يُصبح الفناء صناعةً ذاتية، ويغدو معها الاقتتال الداخليّ أداةً من أدوات السيطرة، وليس سلاحًا عارضًا في ميدان الحرب فقط.
فهذه “الفاشية” المستحدثة لم تقتصر على رسم حدود البقاء والمحو، وإنما تجاوزت ذلك إلى إعادة تشكيل العقول، حتى صار الضحايا أنفسهم جزءًا من آلة إنتاج مأساتهم، إما من طريق التواطؤ الذي يُلبس الذلَّ لبوس الحكمة، أو بالعجز عن تشييد مشروع مقاومة حقيقي، يخرج من إسار الثنائية العقيمة بين صخب الشعارات ونهايات الهزيمة.
ففلسطين اليوم ليست مجرّد ضحية لمجازر الاحتلال، لأنها مفترق تُختبر فيه معالم هذا النظام الفاشيّ الجديد، حيث لا تعود الجرائم نوازل تُثير الفزع، بل “أحداثٌ روتينية”، تُمحى فيها الحدود بين المذبحة والمعاناة اليومية، ويغدو الموت عملية متدرجة، لا تحسمها الرصاصة وحدها، وإنما ينهكها الإعياء، والتطبيع مع الهلاك، حتى يفقد المرء الحسّ بكارثيّة ما يُصيبُه.
وإنّ مواجهة هذا الوضع لا تكون بمجرّد إدانة المعتدي، ولا بالاكتفاء بالمواقف المتقدة عاطفةً الخاوية فعلًا، إذ تستوجب وعيًا نافذًا يحيط بأبعاد الصراع، ويُدرِك تشابك ما هو محلّي بما هو عالميّ، وما هو طارئٌ بما هو ممنهج، وما يكون قتلًا مباشرًا بما يكون تفكيكًا بطيئًا لعزائم المقاومة، حتى لا تبقى المواجهة مجرّد ردّ فعلٍ بائس، وإنما فعلًا يملك البصيرة والنفاذ إلى جوهر المعركة.
إنّ إدراك التعقيد ليس ضربًا من الترف الفكريّ، فهو ضرورة لا غنى عنها، إذ إنّ العدوّ اليوم لا يواجهنا بالسلاح وحده، بل بصناعة وعي زائف، يجعلنا، من حيث لا نشعر، تروسًا في آلة الفوضى المدبَّرة. فإذا كانت المعركة اليوم معركةَ وجود، فإنّها ليست معركة السيف والبندقيّة فحسب، وإنما هي معركة الفكر والبصيرة، معركةٌ ضدّ إعادة إنتاج القابلية للاستعمار في حللها الجديدة، وضدّ تسطيح الصراع في ثنائيات زائفة، لا تُورث إلا مزيدًا من الاستلاب والتيه.
وإنّ المطلوب اليوم ليس الغضب وحده، بل بناء وعيٍ نافذ، قادرٍ على الإحاطة بالمشهد في تعقيده، ومدركٍ أنّ فلسطين ليست جرحًا في خاصرة العرب وحدهم، وإنما هي المِحَكّ الذي يُختبر فيه ما سيأتي، والمختبر الأول الذي تُصاغ فيه ملامح “الفاشية” الجديدة، تلك التي لن تلبث أن تتمدّد، حتى تعمّ الجميع، فلا يبقى لأحد منها مفرّ ولا مستعتب.
إنّ الفهم العميق لما نحن فيه لا يقف عند حدّ تشخيص الداء، حيث يتعدّاه إلى ابتكار السبل للخروج من هذه الدوّامة التي أُقحمنا فيها؛ فالمقاومة اليوم لم تَعُد قاصرة على ساحة الوغى، ولا مقتصرة على صليل السيوف وأزيز الرصاص، بل غدت حربًا ضدّ أدوات التفكيك الذاتي التي زُرعت في وعينا الجمعي، حتى أضحى كثيرٌ منّا، بغير علم، جنديًا في معركة تستنزفه قبل أن تستنزف عدوّه.
ومن هنا، فإنّ أولى الخطوات أن نعيد تعريف العدو، لا كما يُصوّره لنا الخطاب الرسميّ الموجَّه، ولا كما ترسمه الدعايات الطائفية المضلّلة، بل كما يكشفه واقع الصراع الفعلي. لأنّ العدوّ ليس مجرّد كيانٍ غاصبٍ يواجهنا بالسلاح، وإنما هو كلّ منظومة ترمي إلى تجريدنا من أدوات الفعل، سواء بإخضاعنا بالقوة القاهرة، أو بإدخالنا في لعبة استنزافٍ لا غاية لها إلا أن نبقى ندور في حلقة مفرغة، نحسب أنّا نُقاتل، وما نحن إلا وقودٌ لحربٍ تُدار ضدّنا بأيدينا.
لا يرمي هذا المشروع الفاشيّ الجديد إلى إفناء خصمه دفعةً واحدة، لكن يسعى إلى إبقائه غارقًا في لجج أزماته، مأخوذًا بتناقضاتٍ مُختلَقة، متصارعًا مع ذاته عوض أن يوجّه بأسه إلى من يسومه سوء العذاب. ومن هنا، فإنّ المقاومة لا تقتصر على مجابهة الاحتلال في ساح القتال، وإنما تمتدّ إلى مناهضة التفكيك الذي يُمارَس علينا بأسماء شتى؛ باسم الهوية تارة، وباسم الضرورة السياسية تارة، وباسم الواقعية المفروضة من الخارج طورًا.
وإنّ أعظم ما ابتُلينا به أنّا جعلنا أفعالنا أصداءً لأفعال عدوّنا، لا نقوم إلا حيث قام، ولا نحمي إلا من ضرب، ولا نتحرّك إلا إذ ضُرِبنا، حتى صارت حركتنا رهن انتظاره، لا نقرّر مصيرنا إلا حين يقرّر هو متى وكيف يوجّه ضربته القادمة. لكن الفعل السياسيّ الحقّ ليس في ردّ فعلٍ تحكمه العاطفة، بل في القدرة على أخذ زمام المبادرة، في أن نصوغ معادلات الصراع بأنفسنا، لا أن نُساق إليه وفق قواعد يخطّها العدوّ لنا، فنظلّ أسرى حربٍ تُدار ضدّنا بأيدينا، في ميدانٍ لم نختره، وبشروطٍ لم نضعها.
إنّ المقاومة الحقّة لا تُختزل في ساحة القتال فقط، فهي تمتدّ إلى إعادة بناء الكيان المجتمعيّ، بحيث يكون قادرًا على تقديم الشهداء وعلى الصمود والبقاء. إذ أنّ الفاشية الجديدة لا تكتفي بأن تطلق النار على الأجساد، وإنما تضرب في صميم القدرة على الاستقلال، فتعمل على تفريغ المجتمعات من أسباب قوّتها الذاتية، وتجفيف منابع استقلالها، حتى لا تبقى لها مقاومة إلا في هيئة نوبات غضبٍ عابرة، لا يطول بها الزمن حتى تخمد.
ولهذا، فإنّ إنشاء شبكات اقتصادية وتعليمية وإعلامية وثقافية، تمتلك القدرة على التحرّك بمعزل عن دوائر التبعية، ليس أمرًا هامشيًا فقط، لأنه في جوهر المعركة، إذ لا يكون النصر إلا لمجتمعٍ يُحسن بناء ذاته، كما يُحسن حمل سلاحه، ويملك أدوات الفعل كما يملك إرادة القتال، فلا يُستنزَف في ردود الأفعال، إذ يمكنه أن يصنع واقعه بيده، ويخطّ مساره بعيدًا عن قبضة الهيمنة التي تُريد له أن يظلّ في حالة دائمة من الاضطراب والعجز.
إنّ السؤال الذي يلحّ اليوم ليس عن عدد الشهداء، ولا عن هول المجازر، فقد ألفنا الأرقام حتى غدت بلا وقع، وكأنّها محض إحصاءٍ في سجلات الفقد. وإنما السؤال الجوهريّ: كيف نتحرّر من هذه الدائرة الجهنمية التي لا تكفّ عن إعادة إنتاج ذاتها؟ كيف لا تبقى فلسطين جرحًا نازفًا لا يتبدّل فيه إلا أسماء الشهداء، فيما تظلّ الهزيمة قائمة، كامنة في أعماق البنية ذاتها؟
إنّ الجواب لا يجيء من شعاراتٍ جوفاء، ولا من خطاب المظلومية الذي يُرسّخ العجز، ويحبسنا في دور الضحية الأبدية، بل من ثورة في الوعي، تُدرك أنّ المعركة ليست قوميةً ضيقة، ولا دينيةً محصورة، ولا حتى صراعًا ضد الاحتلال وحده، فهي في أصلها مواجهة مع منظومة عالمية تُعيد تشكيل الاستعمار في حلله الجديدة، فتُسخّرنا في حروبٍ ضدّ بعضنا البعض، فيما العدوّ الحقيقيّ يمضي بخطى ثابتة، يوسّع رقعة هيمنته، ويُحكم وثاق السيطرة علينا، ونحن لا نرى إلا ما أُريد لنا أن نراه.
إنّ استعادة الفعل التاريخي ليست أمرًا مستحيلاً، لكنّها تتطلب تجاوز الانقسامات الوهمية التي تبعث على التفتيت، والتخلص من الوهم القائل بأنّ الخلاص قد يكون فرديًا أو فئويًا، إنها تتطلب مشروعًا نهضويًا مضادًا، لا يقوم على المقاومة العسكرية فقط، بل على مقاومة الاستلاب الثقافي والاجتماعي، وعلى إعادة بناء المجتمعات من الداخل، واستعادة أدوات القوة الذاتية التي تكفل لنا القدرة على الفعل، فلا نبقى مجرد رهائن في لعبةٍ لا نضع لها قواعد، ولا نملك لها مصيرًا.
إنّ جوهر الصراع اليوم يكمن في صراع الزمن؛ حيث يملك العدوّ المستقبل لأنّه هو من يخطط له، بينما نحن نعيش في أسر الماضي، محكومون بإعادة إنتاجه، مغرَقون في دوائر التكرار العقيم التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الاستنزاف. من هنا، فإنّ الشرط الأوّل لاستعادة الفعل هو استعادة الزمن نفسه؛ أي أن نملك القدرة على رؤية المستقبل كأفقٍ من الإمكانيات، لا كامتداد للمأساة المقررة سلفًا.
ما نحتاج إليه اليوم مواجهة المنظومة التي تجعل الاحتلال أمرًا ممكنًا، التي تُقنعنا بقبوله كقدرٍ لا فكاك منه، التي تُمسي المأساة حالةً دائمة لا يمكن تغييرها. إنّ كسر هذه الحلقة ليس بمستحيل، ولكنّه يتطلّب بصيرةً معقّدة، تُدرك العدوّ لا بوصفه جيشًا قاصراً على السلاح، بل بوصفه مشروعًا متكاملاً يتغلغل في شتى مناحي الحياة، ويُعيد تشكيل الواقع حسبما يُناسبه.
وكذلك، ينبغي أن نفهم المعركة لا كصراعٍ على الأسلحة وحسب، وإنما كصراعٍ حضاريٍّ عميق، بين من يملك مفاتيح المستقبل، ومن أُريد له أن يُظلّ في غياهب الماضي، حيث تظلّ هزائمه تلاحقه، ولا يُسعفُه الرجاء. لأنّ فلسطين ليست مجرّد ساحة قتال فحسب، بل هي محكٌّ تاريخي، مفترق طرقٍ عظيم؛ إما أن نغادرها إلى آفاقٍ جديدةٍ من الحرية والبقاء، وإما أن نظلّ غارقين في متاهةٍ صنعها لنا الآخرون، نعيش فيها بين الفوضى والانقسام، ولا نغادرها إلا في سلاسلٍ من الخسران.
*محمد الناصري.