story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أخلاقيات الإحصاء

ص ص

حسنا فعلت المندوبية السامية للتخطيط عندما أصدرت تنبيها إلى موظفيها والباحثين المكلفين بالجانب الميداني في الإحصاء العام للسكان والسكنى، بالحفاظ على سرية المقابلات التي يجرونها مع المواطنين ومنع تصويرها أو نشرها.
للأمر ارتباط كبير بالأخلاقيات التي تؤطر مثل هذه العمليات، والتي توصي بها الوثائق الأممية المؤطرة للعملية. وهي المرجعية نفسها التي تحتّم تقديم أجوبة عن أسئلة أخلاقية عديدة ما زالت عالقة، على رأسها آلاف الأطفال المغاربة الذين لن يجدوا أساتذتهم في أقسام الدراسة عند التحاقهم بها هذا الأسبوع، بفعل التزام معلّميهم بالمشاركة في الإحصاء.
الإحصاء هو عملية ضرورية ومفيدة ولا غنى عنها لتحقيق التقدّم في جميع المجالات. ومن واجب الجميع، سواء الدولة أو الصحافة أو المجتمع المدني، المساهمة في نشر الوعي بكوننا بصدد تمرين لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عشر سنوات، وترتبط به الكثير من المصالح، خاصة منها الدعم والتمويلات الدولية.
لكن هناك عتبة من التوازن لابد من السعي إليها كي لا نحوّل هذا الإحصاء إلى “موسم” من مواسم الفنتازيا التي تبقى مجرد لحظات تسلية عابرة سرعان ما نطوي صفحتها بمجرد انقشاع الغبار.
هذا التوازن يتحقق بالعمل على التوعية بأهمية الإحصاء والتحفيز على المشاركة الإيجابية فيه، وفي الوقت نفسه عدم تقديم رسائل متناقضة بضرب الشفافية والوضوح في جانبيهما، المادي والمعنوي.
وإلى يوم الناس هذا، أي 03 شتنبر 2024، لم تقدّم الجهات الساهرة على تنظيم الإحصاء، أي جواب عقلاني على موضوع مشاركة 17 ألف من أساتذة التعليم العمومي، في هذه العملية.
خطاب “الوطنية” الذي يستعمله البعض، بمن فيهم المندوب السامي للتخطيط، لا مكان له في هذا النقاش، لأن الدفع به يعني اتهام باقي المغاربة القادرين على المشاركة في هذه العملية، بعدم الوطنية.
من حق المغاربة أن يعرفوا لماذا عليهم أن يدفعوا أجور موظفين عموميين طيلة شهر شتنبر، دون أن يستفيدوا من الخدمات التي هي المقابل الطبيعي لتلك الأجور؟ وإذا كان هذا التساؤل ينطبق على جميع الموظفين العموميين، فإن الأمر في حالة التعليم يصبح أكثر أهمية، بالنظر لارتباطه بأهم وظيفة نقوم بها كمجتمع منظم، وهي وظيفة التربية والتعليم.
من حق ذلك الطفل الذي سينتظر طيلة هذا الشهر قبل أن يلتحق بباقي أقرانه الذين سيبدؤون تحصيلهم الدراسي، أن يحصل على جواب. وهذا الجواب ليس مطلوبا من الأستاذ الذي قدّم طلبا وتمت الاستجابة له، ويمكن مناقشته من طرف ضمائر المجتمع أخلاقيا فقط؛ بل هو جواب مطلوب من طرفين أساسيين: المندوب السامي للتخطيط ووزير التربية الوطنية.
على السيد أحمد الحليمي أن يقدّم المعطيات الإحصائية المفصلة الخاصة بفئات المشاركين في إنجاز الإحصاء، مع توزيعها الجهوي والمحلي، مع إثبات الضرورة التي فرضت إخلاء الأقسام المدرسية وحرمانها من أساتذتها، في كل حالة وكل قسم.
التربية والتعليم ليسا “خضرة فوق طعام”. وإذا كان الأمر بهذه السهولة فإن علينا التفكير جديا في تقليص عمر السنة الدراسية ولم لا الاقتصار على ستة أشهر، مما سيمكّننا من تقليص كلفة الموارد البشرية وتوجيهها لأوجه إنفاق أخرى.
وعلى السيد شكيب بنموسى أن يخرج ويشرح للمغاربة كيف يستقيم الدخول المدرسي في غياب 17 ألف من الأساتذة والأستاذات؟ وكيف سيتم ضمان حقّ تلاميذهم وتلميذاتهم في سنة دراسة طبيعية كما هو الحال بباقي زملائهم؟ وما هي الإجراءات التي اتخذها باعتباره المسؤول عن الترخيص لهؤلاء الأساتذة بالغياب طيلة شهر شتنبر، لاستقبال وتعليم تلاميذهم؟
أما الشق الثاني الذي يحتاج إلى إعمال الأخلاقيات المرتبطة بتنظيم الإحصاء، فهو الجانب المالي.
القواعد الدولية التي تنظم إجراء الدول للإحصاء العام للسكان والسكنى تنص على نشر الميزانية الخاصة بهذه العملية بشكل مسبق، وتوضيح مصادر التمويل وأجوه الإنفاق وسبل ضمان الجمع بين سرعة الصرف التي تتطلبها العملية، وإمكانية التدقيق والمحاسبة.
وثيقة “مبادئ وتوصيات تعداد السكان والمساكن” الصادرة عن الأمم المتحدة، وفقا لآخر تنقيح (وهو التنقيح الثالث)، لا تنص على أن الإحصاء التقليدي المباشر هو الطريقة الوحيدة الممكنة، بل إنها توصي بتقليص النفقات ما أمكن، وتوظيف التكنولوجيا، بما في ذلك إمكانية استعمال الهواتف الخاصة للباحثين بعد تزويدها بتطبيقات تسمح بتحميل المعطيات وفي الوقت نفسه تحديد الموقع الجغرافي والتوقيت…
كما تنص هذه المرجعيات الدولية التي يبرر بها المسؤولون عندنا طريقة تصرفهم في أموال الإحصاء، على ضرورة الحرص على تجنب تضارب المصالح واحترام المبادئ الأساسية للمساءلة المالية.
وإذا كان اعتماد إجراءات استثنائية في صرف النفقات المرتبطة بالإحصاء مقبولا، فإنه لا يعفي من تقديم الضمانات الكافية لعدم استغلالها.
هل يمكن للسيد الحليمي أن يقدّم لنا ضمانات حول عدم حصول المحاباة والزبونية في انتقاء المشاركين في الإحصاء خلال المرحلة النهائية التي جرت بطريقة مباشرة؟ هل لمندوبية التخطيط قواعد تضمن عدم استغلال بعض المسؤولين الوطنيين والجهويين والمحليين لطرق الصرف غير التنافسية، للاغتناء وتحصيل مداخيل غير مشروعة؟ هل من قواعد بيانات وإحصائيات حول السيارات المستأجرة وسبب اختيارها؟
إن الأخلاقيات التي خرجت المندوبية للدافع عنها في حالة تصوير المستجوبين، مهمة بل وحاسمة في إنجاح مثل هذه العمليات. وأفضل طريقة لتحفيز المغاربة على المشاركة الإيجابية هي الشفافية وإعطاء القدوة والتصريح بالمعطيات المالية والمعنوية بشكل فوري ومنتظم. ولا يمكننا أن نعوّل على خطاب البهرجة والتلويح بكلمة “الوطنية” وإقحام الملك في العمليات التواصلية دون مبرر.
بل إن الفقرة 105.2 من وثيقة “مبادئ وتوصيات تعداد السكان والسكنى”، تقول بالحرف: “يمكن أن تساهم المبالغة في التشديد على الطبيعة الإلزامية للتعداد في تعزيز الإدراكات السلبية بأنه مفروض على السكان، بدلا من إقناعهم بأنه نشاط للصالح العام”.