story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أخطار القارات الثلاث

ص ص

تجري من حولنا في الوقت الراهن، نحن المغاربة، ثلاث أزمات شديدة التعقيد والخطورة، وتحاصرنا من الجهات الثلاث: الأطلسية والمتوسطية والشرقية، كي تكتمل “الباهية”، بما أننا محاصرون عمليا من جهة الجنوب والصحراء منذ فجر الاستقلال.
الأزمة الأولى القادمة من وراء الأطلسي، هي هذه الانتخابات التي ينطلق التصويت فيها خلال يوم واحد من كتابة هذه السطور.
انتخابات أعادت أكبر رموز الشعبوية في الزمن المعاصر إلى الواجهة، وأحيت جميع الكوابيس التي كان معظمنا يعتقد أنها رحلت بشكل نهائي عقب انتخابات 2020 التي خسرها دونالد ترامب وعجز بالتالي عن البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية.
جل استطلاعات الرأي الموثوقة تشير إلى تقارب كبير بين المرشحين، الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كمالا هاريس. والأنظار تتركز نحو الولايات المتأرجحة، أي التي لا يُعرف لها اصطفاف سياسي لصالح هذا المرشح أو ذاك. والحليف الأقوى لترامب، رجل الأعمال الطموح إيلون ماسك، يبشّر عبر منصة “إيكس” التي تعتبر ملكيته الخاصة، أن صديقه بات يتقدّم فيها، دون أن يعني ذلك أن المعركة قد حُسمت.
كيفما كانت النتيجة التي سيسفر عنها اقتراع 5 نونبر 2024، فإن الخطر قائم والضرر ثابت: الشعبوية ما زالت تعيش عصرها الذهبي، والانقسام الحادّ في أكبر ديمقراطية في العالم، يعني استمرار الضبابية والغموض والحذر في الولاية المقبلة، إذا نجح الديمقراطيون، لأنهم سيعيشون طيلة السنوات الأربع تحت ضغط الخوف من الانهيار الانتخابي.
أما إذا نجح ترامب، فما سيحدث نعرفه مسبقا، لأننا عشنا التجربة بين 2016 و2020، وشاهدنا كيف تسارع المد الشعبوي في العالم، ومدّت الدكتاتوريات أرجلها بكل أريحية، وتحوّل العالم إلى سوق مفتوحة للبيع والشراء.
الضرر الذي سيسببه صعود ترامب بدأ بالفعل، وأولي مخلفاته تعيشها الديمقراطية الأمريكية نفسها، بعدما سارع مالكو صحف عريقة ومرجعية إلى منع هيئات تحريرهم من التعبير الصريح عن دعم المرشحة الديمقراطية كما يقضي بذلك خطهم التحريري…
الأزمة الثانية التي لا يعقل أن نتجاهلها، هي تداعيات الفيضانات الكبيرة التي عرفتها منطقة فلانسيا الإسبانية. تداعيات في الخسائر والأرواح أولا، لأننا اليوم أمام مثال لكيفية تجاوز التغيّرات المناخية لكل التدابير والاحتياطات التي يمكن أن يقوم بها الانسان، وفي سياق يوصف بكونه متقدّم وديمقراطي.
نعم هناك الكثير مما ينبغي فعله على المستوى التدبيري، لكن علينا أن نعترف أيضا أن مزاج الطبيعة قد تغيّر بالفعل، وعلينا أن نكون جاهزين للأسوأ، ونحضّر أنفسنا بالتالي من حيث التجهيز والبنيات التحتية والموارد الخاصة بالإغاثة والإنقاذ، لمثل هذه الكوارث الطبيعية.
لكن ما يهمنا أيضا في مخلفات فيضان فلانسيا، هو هذه الأزمة التي لحقت نموذجا كنا إلى وقت قريب نعتبره قدوة في الديمقراطية وتقاسم السلطة بين المركز والجهات. ومنا من راح يستعين بالتجربة الإسبانية وينقل عنها حرفيا في كتابة مشروع الحكم الذاتي وحلم الجهوية الموسعة…
هناك خلل واضح في هذا النموذج الإسباني أبانت عنه هذه الفيضانات، وحدود مقلقة لفعالية الوصفة التي خلص إليها جيراننا الإيبيريون في التوفيق بين سلطة مركزية قوية وسلطات محلية تستجيب لتطلعات الساكنة.
انتهي الأمر بالإسبان خلال نهاية الأسبوع الماضي، إلى رشق ملكهم بالطين وسيل من الشتائم، بعدما جاء للتواصل معهم والتعبير عن انشغال الدولة الإسبانية بما يعيشونه من مأساة خلفت مئات القتلى علاوة على الجرحى والمشردين.
المسؤولية تتحمّلها الدولة في نهاية المطاف، لا أحد يلقي باللائمة على الطبيعة أو يبرر غضبها بالقدر أو كثرة المعاصي، كما لا ينال الحكومة المحلية من العتاب إلا ما يتعلّق بمستوى التجاوب مع التحذيرات التي تلقتها من الحكومة المركزية، وما خصصته في ميزانياتها السنوية لتجهيز المدينة بما يلزم لمواجهة الكوارث.
الدولة مسؤولة أولا وأخيرا، هذا هو منطق العصر ومنطق العقل.
الأزمة الثالثة التي تطل علينا في هذا السياق الملتبس، تأتينا من الشرق، حيث لا ديمقراطية تمثيلية كما هو الحال في أمريكا ولا ديمقراطية تشاركية ومحلية كما هو الحال في إسبانيا. إنها أزمة جيراننا الذين نتقاسم معهم كل شيء إلا طبيعة المستقبل الذي نتطلع إليه.
جيراننا في الجزائر، أخرجوا كل ما في خزائنهم من سلاح لاستعراضه أمامنا، ولوّحوا بالحرب كما يفعل اليائسون، وجمعوا الضعف المحيط بهم من تونس إلى موريتانيا، مرورا بجزء من ليبيا وزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، وعقدوا بهم “قمة” على هامش احتفالاتهم بالذكرى 70 للثورة الجزائرية.
جيراننا يعانون أعراض عزلة قاتلة لم يسبق لهم أن عاشوها في السابق، وخير تجسيد لها ما حصل يوم الخميس الماضي في مجلس الأمن الدولي، حين تبرأ منهم الجميع، بما في ذلك روسيا، وتركوهم في موقف “ما تبغيهش لعدوك”.
مشهد سخيف ومثير للشفقة ذلك الذي تمخّض عنه ردّ الفعل البئيس، حين حاول النظام الجزائري تسويق وهم مغرب كبير بدون المغرب. لكن علينا ألا نستخف بهذا الحُمق المجاور لنا. فقبل عقود كان الراحل معمر القذافي أكثر عزلة وأفكاره أكثر غرابة، لكنّه كلّفنا ما اضطرنا إلى إعلان الاتحاد معه منتصف الثمانينيات…
لابد لنا من الانشغال بهذا المدفع الموجّه نحونا من مجال قاحل ديمقراطيا، ولابد لنا من سبيل لإسكاته، إن لم يكن بالتحالف والاحتواء كما حاول الحسن الثاني مع القذافي، فبمزيد من التركيز على المحيط الإقليمي.
علينا أن نستعيد تونس إلى حيادها، وموريتانيا إلى تعقّلها، وليبيا إلى مصالحها التي عرفنا دائما كيف نوازن بينها وبين مصالحنا.
قدرنا الجغرافي جعلنا في وضع أشبه بالجزيرة التي تحدث عنها عبد الله العروي، وها نحن اليوم بين دروس كوارث القارات الثلاث، لا حصلن لنا سوى تماسكنا الداخلي.