أحمد بوز يكتب: أعطاب الاستمرارية ومأزق الانتقال

مع متم شهر يوليوز 2025، سيقف المغرب على عتبة نهاية السنة السادسة والعشرين من عهد الملك محمد السادس، وهي فترة تغطي جيلا كاملا من تحولات الدولة والمجتمع في مجالات متعددة ومتنوعة.
وإذا كانت سنوات الحكم الأولى قد اتسمت بزخم شعارات التجديد والانفتاح والانتقال الديمقراطي، فإن الصورة بعد أكثر من ربع قرن تبدو أقرب إلى مفارقة بين الزمن السياسي المستمر والزمن الاجتماعي المتغير، بين خطاب الاستقرار والواقع المتسم بتراكم الأعطاب والتردد في الحسم.
السنة المنتهية من هذا العهد حملت معها إشارات على هذا التردد، أو لنقل على هذا الإيقاع البطيء في التعامل مع بعض الإشكالات العميقة.
لا شيء انهار بشكل مريب، كما يقال، ولكن لا شيء تأسس فعليا على نحو يحدث انعطافة. المناخ السياسي العام طغى عليه نوع من الجمود المطمئن لمن يراهن على الوقت كحل، ولكنه مقلق لمن يدرك أن الزمن وحده لا يصلح مظاهر الخلل البنيوي في المعمار السياسي والإداري.
في الفضاء العام، لم يعد الكثير من الناس، في مقدمتهم أفراد النخبة، يتحدثون بالضرورة عن “المكتسبات”، وهي موجودة عندما نستحضر مثلا كيف تحول المغرب خلال العقدين الماضيين إلى ورشة كبرى للمشاريع الواعدة، بقدر ما صاروا يتبادلون الأسئلة حول: إلى أين نمضي؟ ولماذا لم يتغير الجوهر رغم كل هذه الشعارات؟ ومتى يتحول الخطاب إلى فعل؟
الواقع أن هذه السنة لم تنذر بانهيارات، ولكنها لم تحمل بوادر انعطافات كبرى. المشهد السياسي ظل مفرغا من المعنى تقريبا. الأحزاب السياسية تبدو تائهة بين صراعات بعضها الداخلية، وبحث بعضها الآخر المضني عن الطرق التي تسمح لها بضمان موطئ ظل يجنبها السقوط خارج التحالف الحكومي. والحكومة بالكاد تحضر في الوعي العام كمؤسسة فاعلة، بينما البرلمان يتلقى انتقادات صامتة من جمهور لم يعد يرى فيه ما يقنعه بالمشاركة أو التفاعل.
الشعور العام هو أن الحياة العامة تدار خارج إطار الشفافية والمحاسبة، وأن المؤسسات التي يفترض أنها تمثيلية ومنتخبة فقدت تمثيليتها الرمزية قبل التمثيلية الفعلية.
في ظل هذا المناخ، لا يمكن تجاهل أن البلاد تستعد لدخول سنة انتخابية جديدة في 2026. لكنها سنة بلا سؤال، وبلا أفق واضح، وبلا رهانات معلنة، رغم محاولات الدفع بشعار “حكومة المونديال” وكأن احتضان تظاهرة رياضية يمكنه أن يصلح عنوانا للمرحلة المقبلة. واللافت أن هذا الغياب للسؤال ليس نتاج لحظة طارئة، بل تراكم سنوات من “التبريد السياسي”، ومن إدارة الشأن العام بمنطق الضبط، في أبعاده الأمنية والسياسية، لا بمنطق المشاركة والإشراك. لا أحد يتوقع منها تحولا أو يتحدث عنها بانتظار أو رهانات.
إنها انتخابات بلا رهبة ولا رغبة، بلا وعد ولا تهديد. تبدو أشبه بمجرد محطة دورية ضرورية من الناحية الدستورية والقانونية، لكنها تمر في صمت كأنها إجراء بيروقراطي لا علاقة له بفعل سياسي. وهذا ما يبعث على القلق، ليس لأن الانتخابات لم تعد تفرز بديلا، ولكن لأنها قد تصبح في وضعية لم تعد تثير معها حتى “الوهم”.
ومع ذلك، في خضم هذا الهدوء الكثيف، سجل خلال هذه السنة السادسة والعشرون من حكم الملك محمد السادس اختراق لا يمكن إنكاره في أحد الملفات المركزية التي طالما شكلت أولوية قصوى للدولة: نزاع الصحراء.
فبعد سنوات من التحركات المتعددة، وتوسيع قاعدة الاعتراف بمقترح الحكم الذاتي، شهدت هذه السنة موقفين نوعيين حملا دلالات سياسية كبيرة، سيما وأنهما جاءا ليدعما مواقف سياسية سابقة عبرت عنها أساسا الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا.
فقد أعلنت فرنسا، التي كانت في موقع المتردد أو “المتواطئ بالصمت”، بحكم طبيعة علاقاتها المعقدة مع الجزائر، دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي الي يقدمها المغرب كحل للنزاع تحت السيادة المغربية، في تحول أُريد له أن ينهي ما وصف بـ “سوء الفهم المتراكم” بين الرباط وباريس.
وبموازاة ذلك، اعترفت بريطانيا رسميا بمقترح الحكم الذاتي كـ “حل جاد وواقعي”، في خطوة فتحت أبوابا جديدة للرهانات الدبلوماسية، وأهميتها في تحقيق مكاسب قد لا يتنسى الوصول إليها بطرق أخرى.
هذا التطوّر قد لا يقلل من أهمية التحديات المطروحة، ولا ينهي الصراع القائم، لكنه يؤشر على نجاح المغرب في فرض روايته على عدد متزايد من القوى الدولية، في وقت تعرف فيه المنطقة تقلبات استراتيجية حادة.
وهذا الاعتراف المتزايد، وإن كان، على الأقل حتى الآن، لا يعوض غياب الحل السياسي النهائي، يرسخ موقع الرباط في ميزان القوى الإقليمي والدولي، ويوفر لها أوراق تفاوض إضافية في قضية الصحراء وفي غيرها من الملفات الشائكة.
غير أن هذا الاختراق الدبلوماسي، على أهميته، لم ينعكس على الداخل، حيث ظل الشعور العام السائد هو أن القضايا الكبرى تدار بمنطق مركزي لا يستدعي النقاش العمومي ولا يشرك الرأي العام. وهذا ما يجعل الربح الدبلوماسي منقوصا، لأنه غير مدعوم بمنظومة سياسية متماسكة ولا بفضاء عمومي حر ومنفتح.
ستة وعشرون عاما من الحكم قد لا يراها البعض كافية لإصدار حكم نهائي على تجربة ملك، لكنها بالتأكيد كافية لطرح سؤال: هل نحن بصدد مرحلة انتقالية أُجلت حتى أصبحت حالة مستمرة؟ وهل يمكن لمعادلة “الاستقرار مقابل اللا انتقال” أن تستمر إلى ما لا نهاية؟
في المغرب اليوم، لا ينقص الذكاء السياسي، ولكن ينقص الاعتراف بالحاجة إلى التغيير الجوهري. والتغيير لا يطلب فقط من الدولة، بل من المجتمع أيضا. لكن مشكلة المجتمع هو أنه لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته في ظل مؤسسات مفرغة أو على الأقل تبدو كذلك، فالنخبة هي فاتحة المستقبل كما يقال، ولا دولة يمكنها الاستمرار بفعالية في ظل استنزاف الثقة.
ما نحتاجه، ببساطة، ليس معجزة، بل فقط لحظة صدق مع الذات، ومصارحة حقيقة حول ما إذا كنا فعلا نريد التغيير الذي يصنع المستقبل، أم التغيير الذي يعيد إنتاج الماضي.
- هذا المقال هو جزء من ملف العدد 75 من مجلة “لسان المغرب”، لقراءة الملف كاملا يرجى الضغط على الرابط