آن لهذا الجرح أن يندمل!

أكثر من وداع لرجل حمل همَ ابنه القابع خلف القضبان، تحوّلت جنازة أحمد الزفزافي أمس الخميس إلى لحظة كاشفة لعمق المغرب الذي نريد أن نبنيه جميعا.
في مقبرة المجاهدين في أجدير، اجتمعت صور لم نرها منذ زمن بعيد: آلاف المواطنين في جنازة رجل، وأعناق تشرئب لرؤية ناصر الزفزافي وهو يخرج من زنزانته ليودّع أباه، وسلاسل بشرية يصطف فيها الشباب والكهول جنبا إلى جنب مع عناصر الأمن (الدرك) لتنظيم المرور وتأمين الموكب.
لم تكن جنازة أمس التي ودّع فيها المغاربة أحمد الزفزافي مجرد طقس تشييع، بل كانت استفتاء علنيا حول الرواية التي صُرفت عليها ثماني سنوات من التشهير والتضليل، وصُنعت لها تقارير مُفصّلة عن “العمالة” و”الخيانة” و”تلقي الأموال من الخارج”، ونُسجت حولها حكايات عن نزوات شخصية ومصالح ضيقة… فإذا بالواقع يصفع كل ذلك: ناصر الزفزافي خرج إلى الجموع أكثر قوة، وأكثر شرعية.
أتذكّر أول لقاء مباشر جمعني بالراحل أحمد الزفزافي. كان ذلك يوم 10 رمضان الذي اعتقل ناصر الزفزافي في بدايته (2017 ميلادية، 1438 هجرية).
كنت قد اتصلت يومها برئيس الحكومة السابق، عبد الاله ابن كيران، وطلبت منه أن يجيبني عن سؤال محدد لتدقيق معلومة حساسة تهمّه في جانب من جوانبها، قبل نشرها ضمن تقرير إخباري كنت صدد كتابته، فأخبرني أنه ذاهب إلى ضريح محمد الخامس للترحم على الملك الراحل الحسن الثاني في الذكري السنوية لوفاته. وأن بإمكاننا أن نلتقي خلال ربع ساعة، مباشرة بعد عودته إلى بيته…
غادرت مكتب الجريدة حينها، وتوجهت إلى بيت ابن كيران للحصول على التدقيق الذي أحتاج إليه، فصادفت عند وصولي سيارة النقيب المحامي والوزير السابق، محمد زيان، والذين كان برفقة والدي ناصر الزفزافي، متوجها بدوره للقاء ابن كيران في سياق المساعي المكثفة حينها لإيجاد حل سياسي للأزمة التي أعقبت اعتقال قادة حراك الريف.
دعاني ابن كيران إلى حضور لقائه مع كل من زيان ووالدي ناصر الزفزافي، فاعتذرت منه مفضلا الانتظار، حرصا مني على الفصل بين الشخصي والمهني وعدم إحراج الضيوف بوجودي.
لم يدم انتظاري أكثر من بضع دقائق. تحدثت إلى الزوار الثلاثة عندما التقيتهم في سلّم الصعود إلى الطابق الأول من بيت ابن كيران، حيث يوجد الصالون الشهير، ثم سألت ابن كيران نفسه عن مجريات اللقاء (…)، ولم أكن أحتاج أكثر من دقيقة واحدة لتدقيق المعلومة التي طلبت اللقاء من أجلها، ثم انصرفت فورا لإرسال التقرير الإخباري الذي تركته عالقا، قبل إغلاق العدد.
الشاهد عندي هنا هو أن كل هذه الأحداث، منذ وصولي الذي تزامن مع توقف سيارة النقيب زيان ومعه والدا الزفزافي، وحتى خروجي، لم تستغرق أكثر من ربع ساعة كأقصى تقدير، لكنني وبمجرّد إلقائي نظرة على شاشة هاتفي أمام بيت ابن كيران، وجدت أحد المواقع المتخصصة في التشهير والتلبيس، وقد نشر خبر زيارة والدي الزفزافي ومعهما النقيب زيان لبيت ابن كيران، بنبرة تهاجم أطراف اللقاء الأربعة.
وكم كان وقع الخبر علي صاعقا لعدم وجود أي أثر لأي من “صحافيي” ذلك الموقع في المكان…
لقد تواصل استعمال النبرة نفسها منذ ذلك الحين، لكن مشهد الجنازة أمس، بحجمه ورمزيته، كان دليلا قاطعا على أن المقاربة القمعية لم تُسكت صوت المجتمع، بل عمّقت صداه.
وعلى الذين أصرّوا على هذا الطريق أن يتحمّلوا مسؤوليتهم أمام التاريخ: مسؤولية هدر زمن وطني ثمين، ومسؤولية تعميق جراح لا تزال تنزف، ومسؤولية تبديد ولايتين تشريعيتين ضاعت فيهما فرص الإصلاح، لأن الانحراف القمعي الذي بدأ في ماي 2017 لم يخلّف إلا مزيدا من الشروخ بين الدولة ومواطنيها.
لقد رحل أحمد الزفزافي، الرجل الذي لم يكن يملك من أدوات السياسة غير صدقه وإصراره، ولا من موارد القوة غير صلابته الريفية وإيمانه العميق بأن العدل ليس ترفا، بل حق.
وإذا كان الموت قد أسدل الستار على رحلة أحمد الزفزافي معنا، فإن مشهد ابنه ناصر في جنازته ألقى الضوء على بداية ممكنة… نعم، من قلب الأحزان يمكننا تلمّس بوادر طرق جديدة نحو دائرة الضوء.
لقد ظهر ناصر، وقد أثقلته سنوات الاعتقال، لكنه بدا أكثر صفاء ونضجا، وكلماته من فوق سطح بيت العائلة لم تحتج إلى الكثير من الزخرفة: نحن أبناء هذا الوطن، من شماله إلى جنوبه، ولا شيء يعلو فوق مصلحة المغرب.
كان خطابا صريحا، هادئا، وطنيا حتى العظم، بلا شعارات انفصالية ولا مزايدات ثورية، بل دعوة مباشرة للمصالحة ولإطلاق داية جديدة. وحتى المناوشات التي حصلت عقب الجنازة بين القوات العمومية وبعض الشبان الطائشين، أتت لتؤكد الحاجة إلى التقاط الإشارة، وانتهاز الفرصة، لوقف النزيف والكف عن عناد لا يأكل سوى من شرعية واحترام الدولة.
فوّت ناصر، بكلماته تلك، الفرصة على من يتربصون بأي شرخ بين الريف وبقية الوطن، وجرّد خصوم الانفراج من ذريعة الانفصال وخدمة الأجندات الخارجية.لم يكشف ناصر جديدا، ولا قام بمراجعة أو تراجع، لكنها كانت فرصة سانحة، لا أعتقد أن الدولة سمحت بها مكرهة أو غافلة، لإلقاء كل ما أنتجته دعاية التضليل طيلة عقد تقريبا، في مزبلة التاريخ.
تحوّلت الجنازة في لحظة، إلى استفتاء شعبي حقيقي. والجماهير الغفيرة التي خرجت، والسلوك الحضاري المسؤول الذي أبانت عنه السلطات العمومية، والتصفيق الحار الذي رافق كلمات ناصر، والدموع التي انهمرت من عيون رجال ونساء بسطاء وهم يعانقونه… كلها مؤشرات على أن المغرب، في عمقه، يتوق إلى طي هذا الملف، لا لأن حرية ستة معتقلين مسألة مصيرية في ذاتها، ولكن لأن استمرارهم خلف القضبان يرمز إلى عجز جماعي عن تضميد الجرح.
إننا، جميعا، أمام فرصة نادرة. والدولة التي سمحت بخروج ناصر من زنزانته بلا أصفاد، وأتاحت له أن يخاطب الناس بحرية، بعثت رسالة قوية بأنها قادرة على أن تنصت.
والشعب الذي هتف للكرامة والوطن في جنازة أحمد، أرسل بدوره رسالة أقوى: نحن مستعدون للمصالحة، نريد أن نعيش في وطن يحتضن أبناءه بدل أن يسجنهم. أما ناصر فقد قدّم، بكلماته القليلة، المفتاح: الوطن واحد، من صحرائه إلى ريفه.
لا أحد يطالب بمعجزة، أو بتنازلات غير ممكنة. المطلوب فقط أن نرتقي جميعا إلى مستوى اللحظة. وأن نفهم أن المغرب لا يستطيع أن يمضي إلى الأمام وهو يحمل “قيح” 2017 كغصّة عالقة في حلقه، أو حجر حادّ في حذائه. أن ندرك أن الوحدة الوطنية لا تقوم فقط على وحدة التراب، بل أيضا على وحدة الحق.
كان أحمد الزفزافي، حتى آخر أنفاسه، يردد أن ابنه ورفاقه لم يكونوا مجرمين، بل شبابا يطالبون بالكرامة. واليوم بعد رحيله، صار هذا القول وصية أخيرة. وصية صامتة لكنها ملزمة: افتحوا أبواب الأمل، بالعفو الجميل، وبمشروع سياسي وتنموي يعيد الثقة ويستعيد اللحمة الوطنية.
لقد كانت الجنازة امتحانا نجح فيه الجميع: الشعب أبان عن نضج ومسؤولية، والدولة أظهرت وجها إنسانيا، والجموع برهنت أن الوطنية لا تُختزل في خطاب رسمي. بقي الامتحان الأكبر: هل نملك الشجاعة لنترجم هذه الرمزية إلى واقع سياسي يطوي الصفحة ويفتح أخرى؟
كتب الشاعر والمعتقل السياسي السابق صلاح الوديع، في لحظة صادقة: “آن لهذا الجرح أن يندمل”. والجنازة كانت الدليل الأكثر وضوحا على أن الشعب والدولة معا يملكان القدرة على تحويل هذه الأمنية إلى قرار سياسي وتاريخي.
نعم.. آن لهذا الجرح أن يندمل.