story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

هيبة الخارج وغيبة الداخل

ص ص

كتبت، وربما أكثر من مرة، عن قصة تلك العبارة التي بقيت عالقة في ذهني، منذ سمعتها من صديق مقرب من دوائر القرار، بينما كنا نتبادل أطراف الحديث داخل مقر الاتحاد الإفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، متم يناير 2017، أي في ذروة المعركة التي خاضها المغرب لاستعادة مقعده داخل المنظمة القارية.

كنا نتحدّث في نوع من الاستشراف لمستقبل الوضع في المغرب، حيث كنا نعيش وقتها ما يعرف ب”البلوكاج”، بينما كانت تلك المعركة الافريقية تبدو مصيرية. صديقي هذا قال لي يومها إنه إذا نجح المغرب في معركته الخارجية تلك، فإن رئيس الحكومة المعيّن وقتها، عبد الإله ابن كيران، لن يشكّل الحكومة.

بقي صدى تلك العبارة يتردد في ذهني ممزوجا بسؤال: ما هي العلاقة الحقيقية القائمة بين السياستين الداخلية والخارجية؟ أهي علاقة إسناد وترابط أم علاقة تغليب جانب على حساب الآخر (الخارجي على حساب الداخلي)؟

في استمرار لسلسلة المقالات التي كتبتها خلال هذا الأسبوع عن الجانب المشرق، لا أحد يجادل اليوم في أن المغرب يعيش لحظة توسّع جيواستراتيجي نادرة، تكاد تعيد بعث أمجاد الجسر الإمبراطوري الذي كان يربط بين قلب الصحراء ومرافئ المحيط، ويمتد شمالا إلى مشارف الأندلس.

المبادرة الأطلسية مع دول الساحل، والفتح الكهربائي لليل إسبانيا في عزّ العتمة، والانفتاح المتعدد الأبعاد على أمريكا وأوروبا… كل هذه المؤشرات تضع المغرب في قلب إعادة تشكيل التوازنات الدولية في غرب المتوسط والساحل.

لكن وسط هذا الزخم، هناك سؤال ثقيل لا يجد مكانه في خطابات الحكومة ولا في برامج الإعلام الرسمي:

من يحمي ظهر هذا الصعود؟ ومن يُرمّم ما تصدّع في الداخل؟ ما جدوى الطموح حين يُبنى على هشاشة داخلية تشبه زجاجا يلمع في الشمس لكنه يتكسر من أول ارتطام؟

يعلّمنا التاريخ أن الصعود الجيوسياسي لا يُبنى فقط بتحالفات دولية أو توقيعات في القمم الكبرى، بل بعمق الجبهة الداخلية، بقدرتها على الصمود والتجدد والاحتشاد حول مشروع وطني واضح ومشترك.

قبل أكثر من أسبوع، اهتزت الجبهة الداخلية على وقع حادث كاشف: اختراق سيبراني مهين استهدف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إحدى أكبر المؤسسات السيادية التي تحفظ بيانات الملايين من المغاربة، وكشف في لحظة هشاشة تكنولوجية غير متوقعة.

لم يصدر عن الحكومة المغربية سوى صمتٌ مريب، أو بلاغات مترددة، تائهة بين النفي والتقليل من الشأن. منطق الإنكار في مواجهة الأعطاب البنيوية لا يقل خطورة عن العطب ذاته.

هذه ليست مجرد مظاهر خلل عرضي. ما نعيشه هو انكشاف مروّع لهشاشة المنظومة المعلوماتية، وغياب مفهوم الدولة السيبرانية القادرة على حماية مواطنيها من الأخطار الجديدة.

الأخطر من ذلك أن هذه الهشاشة التقنية تتزامن مع استبداد سياسي ناعم تمارسه الحكومة الحالية. حكومة لا تتحرج من إقصاء كل صوت مخالف، ولا تتورع عن التطاول على مؤسسات دستورية يشرف الملك نفسه على تعيين أعضائها، كما حدث في واقعة الهجوم على مؤسسة الهيئة الوطنية للنزاهة، وهو سلوك لم يسجّل في أي مرحلة من مراحل التاريخ السياسي المغربي المعاصر، حتى في أشد فترات السلطوية جمودا.

إنه نموذج غير مسبوق: حكومة منتخبة تعادي أسس الشرعية الدستورية التي أوصلتها للحكم.

هذه الحكومة، التي انتُخبت بوعود التغيير وخلق مليون فرصة شغل، أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تنفيذ وعودها، بل تحولت إلى سلطة تنفيذية تزداد عزلة عن الواقع، وتعتمد أسلوب الإنكار والتبرير بدل المواجهة الصريحة للحقائق.

بلاغات مكرورة، وتصريحات مستفزة، ومواقف لا تنمّ إلا عن قناعة راسخة بأن الحكومة فوق النقد، وفوق المؤسسات، وفوق الناس. ومن المفارقات أن هذه الحكومة التي ترفع شعار الفعالية، عاجزة عن إنقاذ حتى صورتها أمام الرأي العام.

المغرب الذي يخوض اليوم معارك ديبلوماسية متقدمة، ويبني شراكات مع واشنطن وباريس ومدريد، ويقود دينامية استراتيجية مع دول الساحل، لم يُفلح بعد في ترسيخ مفهوم الجبهة الداخلية الموحدة والواعية.

فمن دون إعلام مستقل، ومن دون قضاء نزيه، ومن دون معارضة سياسية قادرة على الصمود، ومن دون أحزاب قادرة على إنتاج النخب، كيف يمكن لمشروع وطني كبير أن يستمر؟

الطموح الخارجي لا يمكن أن يعيش طويلا إذا ظلّ يتنفس على رئة داخلية ضعيفة.

لا أحد يُنكر أن السياسة الخارجية المغربية تعيش لحظة زهو وفاعلية قلّ نظيرها، لكن الحقيقة التي تُراد طمسها هي أن هذا الصعود يتم على أرض رخوة، داخل بلد يُعاني من فقر السياسات الاجتماعية، واختراق المنظومات الحيوية، واستفراد حكومة بلا خيال بالمشهد العام.

الهوّة تتسع يوما بعد يوم بين ما ننجزه خارج الحدود وما نعانيه داخلها. ولا أحد يجرؤ على تسمية المفارقة باسمها الكامل: صعود بلا قاعدة صلبة، وواجهة حديثة بجدران مهترئة.

إن الإمبراطوريات لا تنهض من حدودها الخارجية فقط. والفتح الحقيقي يبدأ من داخل الحدود، من مدرسة لا تُهين عقل التلميذ، ومن مستشفى لا يبتز الفقير، ومن إدارة لا تبتلع المواطن في طابور الانتظار، ومن جهاز حكومي يعتبر نفسه خادما لا سيدا.

هذه ليست مجرد شعارات، بل شروط بناء الثقة الداخلية، الضامن الوحيد لاستدامة الطموح. فالتوسع بلا إصلاح هو مجرد طموح مؤجل، قابل للارتداد عند أول أزمة.

إن أعظم تهديد لمشروع المغرب الجديد لا يأتي من تندوف ولا من الجزائر ولا من مدريد… بل من هنا، من الداخل، من حكومة لا ترى في المؤسسات سوى منافسين، ولا تؤمن إلا بلغة التحكم وتزيين الأرقام، ومن نخبة ترضى بأن تكون شهود زور على ما يُرتكب باسم الاستقرار.

والمصيبة أن أغلب هذه النخب تبرر تقاعسها بأنها تنتظر تعليمات لا تأتي، بينما مشروع الدولة يفرّ من بين الأصابع.

يملك المغرب اليوم فرصة تاريخية لبناء نموذجه الخاص، يزاوج بين الانفتاح الجيوسياسي والتماسك الداخلي، لكن ذلك يمرّ بالضرورة عبر كبح غرور السلطة التنفيذية، وتجديد الثقة في المؤسسات، وردّ الاعتبار للمواطن كفاعل لا كرقم في سجل الانتخابات.

لا توجد قوة في التاريخ استمرت دون قاعدة اجتماعية حقيقية، تعي مشروعها، وتؤمن بدولتها، وتجد نفسها ممثلة في القرار والخيارات.

إن التحالفات العابرة للحدود لا تبني وحدها مجدا. المجد الحقيقي تصنعه المجتمعات عندما تؤمن أنها ليست ضحية التاريخ، بل صانعة له. والمغرب، الذي يتقدم خارجيا بخطى واثقة، بحاجة إلى أن يسأل نفسه: من معنا في الداخل؟ وهل نستحق أن نكون النموذج الذي نريد أن نصدّره للآخرين؟