story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل تعيد فرنسا احتلال لبنان؟

ص ص

كما هو معلوم فإن علاقة لبنان بفرنسا تعتبر علاقة تَبَني تاريخي وأيديولوجي وجيوسياسي. وقد بدا ذلك واضحا في مناسبات عدة ضمنها زيارتا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لهذا البلد عقب انفجار ميناء بيروت في غشت من سنة 2020.
بل إن فرنسا التي انتدبت على لبنان بمقتضى اتفاقيات سايكس بيكو سنة 1920، هي من أنشأت الدولة اللبنانية أو “الجمهورية اللبنانية” الحالية في عام 1926، وتعتبر تلك السنة بداية التاريخ الحديث للبلاد، بعدما ظلت تحت الحكم العثماني من 1516 إلى 1918، تاريخ تفكك الإمبراطورية العثمانية.
وللتذكير، فإن شكل عَلم لبنان نفسه خلال فترة الانتداب الفرنسي لم يكن سوى تجسيدًا لعلم فرنسا (الأحمر والأبيض والأزرق بشكل عمودي) مع شجرة أرز في وسطه، قبل أن يتم استبدال الأزرق بالأحمر ليصبح العلم اللبناني الحالي مكونا من خطين أحمرين، أفقيين هذه المرة، يتوسطهما خط أبيض مضروب بصورة نفس شجرة الأرز السابقة. تلكم الشجرة التي تعتبر رمزا مقدسا هناك بالنسبة للمسيحيين على الخصوص، والظاهر بل الأكيد أن الحكم الفرنسي للبنان لم ينته بإعلان استقلالها سنة 1943، بل هو مستمر بشكل جلي إلى يوم الناس هذا، ويعتبر ما وقع خلال زيارتي الرئيس الفرنسي المذكورتين لبيروت، حين لم يكد الرئيس السابق ميشيل عون يجد مكانا له ضمن مرافقي ماكرون، بينما كان هذا الأخير يتصرف وكأنه الرئيس الفعلي لقصر باعبدة وليس ميشيل عون.
ميشيل عون هذا له مع فرنسا تاريخ ذو شجون، حين لم يجد أمامه في سنة 1990، غير السفارة الفرنسية في بيروت للجوء إليها بعد غزو الجيش السوري، ومكث فيها (واكل شارب كما نقول في المغرب) لمدة أحد عشر شهرا قبل أن تمنحه باريس اللجوء السياسي وتنقله بواسطة سفينة حربية من لبنان إلى قبرص، ومن هناك إلى فرنسا التي مكث فيها خمسة عشر عاما، قام خلالها، بتأطير فرنسي، بتأسيس حزبه الحالي المعروف باسم “التيار الوطني الحر”، ثم العودة إلى بيروت مجددا تحت رعاية باريس سنة 2005، ثم التحول سنة 2016 إلى رئيس للبنان، ولذلك لم يكن تهميشه الكلي من طرف الرئيس الفرنسي خلال الزيارتين المذكورتين غريبا، فهو مرآة لعلاقة لبنان بشكل عام والجيش بشكل خاص بفرنسا.
هذا الجيش الذي تلعب باريس من خلاله دورا كبيرا في التوازن السياسي والعرقي والأيديولوجي والعسكري مع حزب الله وباقي الفصائل اللبنانية المسلحة منها وغير المسلحة. إلا أن اندلاع أو تصاعد المواجهات بشكل ملحوظ مؤخرا بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، وقصف إسرائيل المتصاعد للأراضي اللبنانية، دفع باريس إلى تحريض الجيش اللبناني على الاعتراض على عمليات حزب الله في مواجهة إسرائيل، ومطالبته بالامتناع عن الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي.
وقامت فرنسا في ذات السياق بتقديم اقتراح للحكومة اللبنانية يقضي باقتصار التواجد العسكري في جنوب لبنان على قوات اليونيفيل والجيش اللبناني النظامي فقط دون الميلشيات، بما يعني عمليا إقصاء حزب الله ونزع الشرعية عن انتشاره في جنوب لبنان، وهو ما صرح به كذلك بوضوح سمير جعجع في حواره الأخير قائلا: “عديد عناصر الجيش اللبناني يتخطى الـ70 ألفا، أي يمكنه نشر 15 الفا منهم على الحدود، وفي حال احتاج الى المساعدة، بإمكان الدول الصديقة التي أبدت جهوزيتها تأمين ما يلزم من تمويل وحاجات”، في الوقت الذي يبلغ عدد أفراد قوات حزب الله ما يناهز مائة ألف عنصر ذوي تدريب احترافي عالٍ جدا ، كما صرح بذلك سابقا حسن نصر الله في سنة 2021 . ‎
وفي ما يعتبر تماهيا مع المقترح الفرنسي المتعلق باقتصار التواجد العسكري في جنوب لبنان على الجيش اللبناني النظامي، قال جعجع، رئيس حزب “القوات اللبنانية “، إحدى الميليشيات المسيحية المتورطة في الحرب اللبنانية، والذي تلاحقه تهم التنسيق مع إسرائيل في مجزرة صبرا وشاتيلا، قال في رده على سؤال ما إذا كان انسحاب “حزب الله” من الجنوب قد يؤدي إلى مشكلة: “لا نريد اصطدام الجيش مع قيادة “الحزب”، ولكن في الوقت نفسه لا نريد أن “يأخذ الحزب لبنان كله، ويتوجب على الحكومة اتخاذ الموقف الحاسم والقول علنا بأنها لم تتخذ قرار فتح العمليات العسكرية في الجنوب وهي لا تتحمل مسؤولية كل ما يحصل، وأن نذكر أن دول العالم كلها أعربت عن تأييدها ومساعدتها كي نحافظ على آخر شبر من أرضنا شرط انسحاب “حزب الله” من الحدود وانتشار الجيش مكانه.”
وإذا كان من نافلة القول الإشارة إلى استحالة تحقيق هذا الاقتراح الذي لم تتسلم فرنسا لحد الآن رد الحكومة اللبنانية الرسمي بشأنه، رغم زيارة وزير خارجيتها لبيروت مرتين منذ تعيينه في يناير الماضي، فإن ضعف الجيش اللبناني عقيدة وعددا وعدة واستعداداً، يجعلنا نعتقد أنه، إذا ما اندلعت مواجهات بينه وبين حزب الله، فسيكون عاجزا تماما عن الرد وسيلجأ بسهولة للاستعانة بالجيش الفرنسي وربما الأمريكي لأغراض سنبينها لاحقا. والجيش الفرنسي على الخصوص سيسارع بكل قواه لتلبية الدعوة لعدة أسباب منها:
أولا: باعتبار ذلك فرصة لباريس للحفاظ على موقع ونفوذ فرنسا في المنطقة أمام تضخم حجم وقوة حزب الله وباقي الفصائل الفلسطينية واللبنانية،
ثانيا: لأن فرنسا التي تلقت سلسلة هزائم استراتيجية في أفريقيا، واضطرت للانسحاب من عدة دول في غرب القارة مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في حاجة ماسة لأي “نصر” عسكري واستراتيجي خارجي لإعادة التأكيد على حجمها كدولة كبرى وتبرير موقعها كإحدى الدول الدائمة في مجلس الأمن الدولي،
ثالثا: للترويج للصناعة العسكرية الفرنسية بعدما كشفت الحرب الأوكرانية ضعف مستوى الأسلحة الفرنسية ميدانيا،
رابعا: لأن ذلك سيوفر لفرنسا (وربما أمريكا وبريطانيا) غطاء لدعم إسرائيل، خصوصا بعدما تبين أن هذه الأخيرة غير قادرة عن الدفاع عن نفسها خلال الهجوم الخفيف جداً الذي شنته إيران، وبالتالي أصبحت عملية الإسناد العسكري المباشر لتل أبيب وحرمان إيران من قاعدتها المتقدمة في جنوب لبنان ضروريا للحؤول دون هزيمة إسرائيل.
لكن انخراط الجيش الفرنسي في المواجهة بين حزب الله والجيش اللبناني، سواء بني على أسس القانون الدولي أو على منطق الناتو، سيجعله طرفا مباشرا في الحرب اللبنانية وبالتالي في الحرب اللبنانية-الاسرائيلية، أي الحرب الفلسطينية الاسرائيلية في نهاية المطاف.
كما أن انخراط فرنسا في الصراع سيأتي من بوابة دعم المسيحيين اللبنانيين أساسا ضد الشيعة، على اعتبار أنه من الواضح أن السنة سيبقون مؤقتا على الحياد، سيعيد حرب الطوائف في لبنان، وقد يعطل دور المقاومة اللبنانية في نزاع الشرق الأوسط بشكل عام ودعم الفلسطينيين بشكل خاص، ولكنه سيتسبب أيضا في تكثيف الدعم الإيراني للشيعة (حركة أمل وحزب الله)، وسيفسح لاحقا، مجالا أوسع أمام السنة للمناورة سياسيا بما يعيد السعودية بقوة إلى الساحة اللبنانية باعتبارها راعية لهم هناك، بل قد تتحول الحرب اللبنانية إلى مبرر للتنسيق غير المعلن بين السعودية وإيران في إطار صفقة قد تشمل تجميد الحرب السعودية- اليمنية،
خامسا: إن سعي باريس الحثيث للحصول على دور فرنسي في لبنان في هذا الظرف بالذات، إنما سببه كون المنطقة توجد حاليا تحت تركيز إعلامي مكثف بسبب الحرب الفلسطينية الاسرائيلية، مما يعطي لباريس بدورها فرصة خوض حملة إعلامية عبر الشاشات والبلاتوهات الفرنسية والأوروبية والإسرائيلية وحتى بعض المنابر العربية، وهي كثيرة، من أجل الترويج لدور سياسي فرنسي في عملية صياغة النظام العالمي قيد التكوين.
ففرنسا التي لم تحرك ساكنا لإنقاذ لبنان المنهار تماما اقتصاديا وماليا، لأن ذلك لا يحقق لها أي نصر استراتيجي خارجي ولا يساعدها في تحسين صورتها داخليا، تعتبر أن انخراطها عسكريا وأمنيًا سيعطيها صورة، وإن كانت وهمية، فهي في أمس الحاجة إليها على مستوى السياسة الخارجية، وسيساعدها ذلك أيضا في جر المؤسسات المالية والدول الغربية نحو دعم حليفتها بيروت اقتصاديا وماليا .
ورغم كل ذلك ، فإن مصير الحرب يبقى معروفا وستنتهي حتما بسيطرة الشيعة، ليس فقط على جنوب لبنان، بل على كامل لبنان هذه المرة، كما صرح بذلك سمير جعجع، وسيتم تفكيك بنيات الدولة اللبنانية الحالية وتنصيب حكومة شيعية بالكامل، تماما كما حصل لعلي عبد الله صالح مع الحوثيين في اليمن. وسينتهي لبنان إلى ما كانت عليه التركيبة السياسية والمؤسساتية الطائفية العراقية زمن صدام حسين مع عكس الأدوار.
كما أن سيطرة حزب الله على لبنان تعني ضمنيا سيطرة إيران على لبنان، أي أن البلاد ستصبح ضمن النفوذ الاستراتيجي الإيراني، بما يعفي الصواريخ الإيرانية من المرور عبر سماء دول ثالثة كالعراق والأردن لقصف تل أبيب كما حدث قبل أسبوعين، ويعطي لإيران تفوقا ميدانيا واستراتيجيا واضحا. ولكن يبقى الاهم من كل ذلك والأخطر منه أن لبنان سيصبح ضمن النفوذ الاستراتيجي الروسي بحكم العلاقات بين طهران وموسكو، في سيناريو يعيد إلى الأذهان هذه المرة التدخل الروسي في سوريا بما يعني ليس فقط خلق تهديد مباشر على أبواب تل أبيب، بل سيلغي أيضا ونهائيا التفوق الاستراتيجي والنفسي لتل أبيب على جيرانها في المنطقة عبر إلغاء أي أهمية للسلاح النووي الإسرائيلي حينذاك، لأن تل أبيب لن تجرؤ على استعمال السلاح النووي في منطقة يتواجد بها الجيش الروسي الذي يعتبر أكبر جيش عدة من الناحية النووية.
صحيح أن هذا السلوك الفرنسي المتعلق باحتمالات التدخل المباشر في الشأن اللبناني، إن حدث، سيكون انتحاريا، ولكنه في الحقيقة ليس نشازا في السياسة الخارجية لباريس، التي دأبت في الفترة الأخيرة، على مضاعفة الجهود والمبادرات من أجل الاحتفاظ بوضع الدولة القوية، وتحقيق أي نصر خارجي مهما كان للتغطية على انهيار الدور الجيو استراتيجي لباريس في عدة مناطق من العالم، وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر ما تحاول فرنسا القيام به من تأجيج للحرب بين أذربيجان وأرمينيا عبر انخراط باريس إلى جانب يريفان تجهيزا وتسليحا، كما يمكننا أن نذكر تصريح الرئيس ماكرون حول استعداد باريس لإرسال جنود فرنسيين لأوكرانيا لمحاربة روسيا، أو زيارتي وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان مؤخرا في سياق التصعيد بين حزب الله وإسرائيل من جهة، والخلاف بين حزب الله والجيش اللبناني حول ذلك من جهة أخرى.
هناك ارتباط في الذهنية الفرنسية بين ملفي لبنان وأرمينيا، ويندرجان ضمن نفس الرؤيا الأيديولوجية والاستراتيجية لباريس، وضمن أدوات الفعل الجيوسياسي الفرنسي في المنطقة، حتى أن فرنسا ورطت لبنان في الاعتراف بما تسميانه معا “إبادة الأرمن ” من طرف الدولة العثمانية، واليوم يتواجد الأرمن في لبنان بحماية فرنسية ويتوفرون هنالك على متاحف خاصة بهم، لتبرير مواقف باريس اتجاه تركيا وتسويغ مؤامرة سايكس بيكو لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، في الوقت الذي تعتقل فيه فرنسا من يحتج سلميا على عملية إبادة الفلسطينيين.