story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

نكبة المغاربة

ص ص

تحكي مصادر موثوقة للغاية، واقعة تبيّن كيف قاوم المغرب الضغوط التي كانت تسعى إلى حمله على تطبيع علاقاته مع إسرائيل في سياق ما يعرف ب”اتفاقات ابراهام”، تعود إلى الزيارة الشهيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي السابق، جورج بومبيو، إلى المغرب شهر دجنبر 2019.
اشتهرت هذه الزيارة بعدما انكشفت محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الالتحاق بالوزير الأمريكي الذي كان في جولة دبلوماسية، ولقائه في العاصمة البرتغالية لشبونة، ومرافقته على متن الطائرة الرسمية لكبير الدبلوماسيين الأمريكيين والوصول برفقته إلى الرباط.
يعرف الجميع كيف ألغي الاستقبال الملكي الذي كان مبرمجا ضمن جدول أعمال زيارة المسؤول الأمريكي للمغرب، وكيف تم إجهاض محاولة نتانياهو “التّلصّق” في المغرب والحصول على استقبال رسمي فيه محتميا بالمظلة الأمريكية.
لكن ما لم نعرفه وقتها، وترويه مصادر عالية الدقة، هو الخطوات الموازية التي اتخذها المغرب وقتها لمقاومة الضغوط الأمريكية.
تقول هذه المصادر إن الشخصيات التي كانت قد توصلت فعلا بدعوات لحضور العشاء الملكي الذي كان سيقام على شرف الوزير الأمريكي، تلقوا اتصالات لاحقة تخبرهم بإلغاء هذا العشاء. غضب بروتوكولي مفهوم من دولة ذات سيادة وكبرياء مثل المغرب.
لكن المعطى الأكثر دلالة في ما جرى يوم 5 دجنبر 2019، بعد لقاء بومبيو مع نتانياهو في لشبونة ثم وصوله وحيدا إلى الرباط، هو تلك التوجيهات التي تلقاها المسؤولون الحكوميون المغاربة، والتي تقضي بعدم إثارة ملف الصحراء نهائيا أمام وزير الخارجية الأمريكي.
اختيار يكاد يكون من باب المستحيل في الأعراف الدبلوماسية المغربية، حيث يُعتبر ملف الوحدة الترابية للمملكة ذروة سنام الأجندة المغربية في كل ما يتصل بالعلاقات الخارجية، وهو أول ما ينبغي لأي مسؤول سياسي أو رسمي طرحه في لقاءاته الخارجية.
لكن الدولة وقتها كانت تعلم أن بومبيو حضّر جوابا سيلقي به فوق الطاولة بمجرد ما يفتح معه المسؤولون المغاربة ملف الصحراء، وهو ضرورة تطبيع العلاقات مع إسرائيل ل”مساعدة” واشنطن في دعم الموقف المغربي في النزاع.
ما حملني على استحضار هذه التفاصيل ليس تاريخ اليوم، 15 ماي 2024، الذي يصادف الذكرى السنوية للنكبة، كما حدّدها الراحل ياسر عرفات قبل أكثر من ربع قرن، كي يبقى اليوم الموالي لإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، جرحا مفتوحا في الوجدان الإنساني إلى أن تتحقق العدالة وينال الفلسطينيون حقوقهم، بل لأن ما يجري حاليا من تحركات دبلوماسية مغربية، ينطوي على مؤشرات استعادة روح “مقاوِمة” لفكرة التطبيع بطريقة التركيع.
لا أدري هل الأمر طبيعي أم مصطنع، لكن الأخبار التي تفيد استمرار خيار التطبيع الشامل وغير المتحكم فيه بين المغرب وإسرائيل، تجد طريقها بسهولة نحو النشر والترويج والتداول، بينما لا يعير أحد اهتماما لخطوات الممانعة والحرص على الحد الأدنى من ماء الوجه.
تعالوا نستعرض عيّنة من الأحداث التي وقعت في الأسبوعين الماضيين فقط:
في 04 ماي الجاري، قال الملك شخصيا في رسالته الموجهة إلى القمة الـ15 لمنظمة التعاون الإسلامي التي انعقدت بالعاصمة الغامبية بانجول، إن غزة تتعرض ل”عدوان غاشم”، يشكّل “وصمة عار على جبين الإنسانية”. وانطلاقا من مسؤوليته كملك للمغرب ورئيس للجنة القدس، قال الملك محمد السادس في الخطاب الذي تلاه أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية: “إننا نكرر بإلحاح مطلبنا بضرورة الوقف الفوري والمستدام والشامل لهذا العدوان غير المسبوق، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية في قطاع غزة بأكمله”. وفي رد ضمني على بعض السيناريوهات المتداولة، رفض الملك أي حديث عن مستقبل قطاع غزة، الذي يريد البعض للمغرب أن يلعب فيه دور الشرطي الذي يحمي إسرائيل من المقاومة، “لا يستقيم إلا في ظل وقف الاعتداءات، ورفع كافة أشكال المعاناة عن الشعب الفلسطيني”، مؤكدا أن غزة شأن فلسطيني وجزء من أرض الفلسطينيين.
في 08 ماي، قام رئيس فريق الأصالة والمعاصرة في مجلس النواب، أحمد التويزي، بإدانة “الحرب الإجرامية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة”. وقال التويزي في كلمة ألقاها في جلسة عمومية بمجلس النواب (كانت مخصصة لمناقشة الحصيلة المرحلية لنصف الولاية الحكومية)، إن المناسبة لن تمر “دون أن نستحضر المأساة الإنسانية التي يمر منها الشعب الفلسطيني في ظل الهجوم الهمجي على قطاع غزة”. ومع كل التقدير والاحترام الواجبين لشخص التويزي، فإنني لا أظنه كان يتحدث خارج منطق الدولة.
في 10 ماي، التقى رئيس الحكومة السابق، سعد الدين العثماني، بإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق، القياديين في الحركة الفلسطينية ذاتها، خلال “مقامه” في العاصمة القطرية الدوحة. وأعلن الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية في تدوينة عبر حسابه الرسمي في موقع “إكس”، أنها “كانت فرصة لتجديد التعزية والترحم على شهداء غزة، والشهداء من أسر القيادات الحاضرة بالخصوص، وتقبل الله الجميع عنده وعوض الأحياء خيرا”. مشيرا إلى جهود المغرب “بقيادة الملك محمد السادس في دعم الفلسطينيين في القدس وفي غزة، والخطاب القوي للملك الموجه إلى قمة دول منظمة التعاون الإسلامي في الموضوع، وأيضا تفاعل الشعب المغربي وقواه المدنية والسياسية لاستنكار جريمة العدوان…”. ومع كل التقدير الممكن للدكتور العثماني، فإنني لا أستطيع تصوّر انعقاد هذا اللقاء خارج اختيارات الدولة.
وقبل يومين فقط، أي يوم 14 ماي الجاري، ظهر الوزير بوريطة مجددا في الصورة، وأجرى مباحثات مع محمد مصطفى، رئيس الوزراء، وزير الخارجية وشؤون المغتربين بدولة فلسطين، بمناسبة انعقاد القمة العربية، حيث أكد الموقف الراسخ للمغرب، “بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، رئيس لجنة القدس”، من عدالة القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشـرقية على حدود الرابع من يونيو عام 1967. بينما تحدث بوريطة عن “العدوان الإسرائيلي السافر ضد غزة” في لقائه مع نظيره الأردني أيمن الصفدي”.
هناك إذن “مقاومة” جديدة تصدر من داخل الدولة، بل ومن قمّة هرمها، أي المؤسسة الملكية. وهو ما ينبغي التقاطه والوقوف عنده، لأن الموقف الرسمي لا يمكن أن يظل إلى الأبد مرتهنا إلى منطق “المصالح” التي لا ندري أ حقيقية هي أم وهمية، ويتنكّر لهذه المواقف الشعبية الهادرة التي تعبّر عن نفسها كل يوم.
ويحتاج المغاربة أيضا إلى التقاط مؤشرات المقاومة هذه، لأن النكبة لم تكن فلسطينية فقط، بل كانت عربية وإسلامية وإنسانية، وبالمعنى الرمزي والمعنوي لكن أيضا بالمعنى المادي، بما أن أول ما استهدف بعد هزيمة 1967 (النكسة) هو حيّ وباب وأوقاف المغاربة.
كما أن المغاربة تنكّبوا عندما حاول البعض الركوب على قرار التطبيع الاضطراري رمتم العام 2020، ليصفعنا بشعار “كلنا إسرائيليون”.
هي إذن ذكرى تكبتنا الجماعية التي تحل اليوم..
وكل نكبة ونحن مقاومون.