نخبة الدولة وسيرك الشعب
تابعت كأغلب المهتمين بالشأن السياسي والتدبير العمومي، ما جرى بين يومي الجمعة والإثنين الماضيين، أي بين تلك اللحظة التي كان الملك يخطب فيها أمام “ممثلي الأمة” داعيا إلى التعبئة والاستنفار للدفاع عن الوحدة الترابية، وهي المنصة نفسها التي دعا منها السنة الماضية إلى التخليق في العمل البرلماني، وقبل ذلك دعا إلى دعم قدرات الأحزاب في البحث والدراسات… واللحظة الموالية في أول جلسة للأسئلة الشفوية التي جرت زوال الإثنين، والتي جعلتنا نتابع حصة من “معاطية الحمّامات” بسبب خلاف بسيط حول ترتيب الأسئلة، وبعد ذلك دخول الغرفة الثانية، أي مجلس المستشارين، في فترة “عطب تقني” حال دون عقدها جلسة دستورية، بعدما تعذّر انتخاب أجهزتها الجديدة في الوقت الذي تحالف فيه المنطقان الحزبي والعائلي، للحسم في مصير رئاستها.
كنت عازما صباح أمس على الكتابة عن هذا الموضوع، أي هذا “السيرك البرلماني” الذي انطلق قبل أن يجف حبر الخطاب الملكي، لكنني سرعان ما ترددت وتراجعت بفعل تلك المعضلة التي تصيب كل من يحمل في قلبه فكرة التمثيل الديمقراطي عبر المؤسسة البرلمانية.
خشيت أن أسقط دون قصد في عملية التبخيس والإفراغ من المضمون التي يقوم بها خصوم الديمقراطية، و”نعلت الشيطان”.
لكن المشهد نفسه عاد ليستبدّ بي وأنا أتابع صباح أمس لقاءات رسمية لنخب أخرى، دعوني أسميها نخب الدولة، وإن كان لبعضها نسب حزبي لا غبار عليه.
لم يفارقني مشهد “المعاطية” في مجلس النواب، والسريالية في مجلس المستشارين، وأنا أحضر لقاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي خصص أمس لمناقشة التقرير الموضوعاتي ضمن التقرير السنوي للمؤسسة، والذي خصصه المجلس هذه المرة لفكرة تطوير صناعة السفن في المغرب.
كما فرضت المقارنة نفسها علي بقوة وأنا أتابع في وقت لاحق تسجيل المداخلة التي ألقاها بشكل متزامن، الخازن العام للمملكة، نور الدين بنسودة، في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، والتي كانت بمثابة درس افتتاحي لهذه المؤسسة الجامعية.
في مقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كان الرئيس أحمد رضا الشامي يدخل القاعة إلى جانب وزير النقل واللوجستيك محمد عبد الجليل، ليجلسا في المنصة بمعينة الأمين العام للمجلس وعضوه الأستاذ الجامعي لحسن أولحاج.
على مدى ساعات، كان الحاضرون، وجلّهم من الخبراء والمختصين والبيروقراطيين (بالمعنى الإيجابي للكلمة)، يخوضون في نقاش غاية في الجدة والدقة والأهمية.
أخبرنا الشامي وعبد الجليل وأولحاج بحقيقة مرة طالما غابت عنا، وهي أننا بلد له 3500 كيلومتر من السواحل، لكنه لا يصنع سفنه، صغيرها وكبيرها، ولا يملك الحدّ الأدنى من القدرة على صيانتها وإصلاح عطبها، وهو ما يجعلنا دولة فقيرة من حيث التوفّر على أسطول تجاري بحري، وضعيفة من حيث حماية سيادتها باضطرار أساطيلها إلى الانتظام في صفوف طويلة أمام ورشات الصيانة في موانئ دول أجنبية.
قد يكون من حسنات جائحة كوفيد19 أنها نبّهتنا إلى عيوب خطيرة مثل هذه، حين باتت السفن التجارية بمثابة بيضة الديك خلال لحظات بحث الأمم عن سبل التزوّد بحاجياتها الأساسية من الغذاء والدواء والمواد الأولية… بينما تُكبّدنا الواردات المرتبطة بصناعات البحرية وصناعة السفن ملايير الدولارات… إننا نستورد حتى سترات النجدة، ومجموع أنشطتنا الصناعية في هذا المجال لا يتجاوز نصف مليار درهم كرقم معاملات سنوي.
نغادر قاعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ويمكنكم أن تجدوا في موقعنا هذا تقريرا إخباريا حول خلاصات وتوصيات التقرير المتعلق بصناعة السفن، ونتجه نحو قاعة المحاضرة الافتتاحية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة.
هناك وقف الخازن العام لمملكة، أحد الوجوه البارزة للنخبة المالية والاقتصادية ل”العهد الجديد”، وألقى محاضرة حول المالية العمومية وإطارها النظري في علاقة بحقول السياسة والاقتصاد والقانون، مؤثثا إياها بين فكرة وأخرى باقتباسات لكبار المفكرين والفلاسفة والمنظّرين…
بين بداية المحاضرة ونهايتها، توليفة غاية في الدهاء بين الرفع من قيمة منطق الدولة بمعناها “العميق” والاستراتيجي، في مقابل تبخيس دور ومساهمة الفاعل السياسي المنتخب لولاية حكومية أو برلمانية قصيرة؛ وفي الوقت نفسه التنبيه إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية والقانونية اللازم استحضارها في مجال المالية العمومية.
عاد بنسودة إلى التاريخ ليحدّث الأساتذة والطلبة الحاضرين عن رحلة التدبير المتعلق بالمال العام، من عهد الحكام المطلقين الذين يتصرفون في المالية العامة كما يتصرفون في مالهم الخاص، مستحضرا مقولة لويس 14 “أنا الدولة والدولة أنا”.
وشرح كيف تطوّر الأمر مع نصوص مثل “وثيقة الحقوق” لسنة 1791 (Bill of rights) التي تعتبر جوهر الدستور الأمريكي، أو وثيقة “ماجنا كارتا”، أو الوثيقة العظمى التي صدرت في بريطانيا بداية القرن 13، والتي توصف بكونها أول “دستور” مكتوب في التاريخ المعاصر.
وفسّر الخازن العام لمملكة كيف يرتبط تدبير المالية العامة بالاختيارات الاقتصادية الكبرى والنموذج الاقتصادي المعتمد، موضحا الفرق بين النماذج الليبرالية وتلك التي تقول بتدخل الدولة. وبيّن كيف ترددت النماذج السائدة عالميا حسب الظروف والسياقات، وكيف اضطر المغرب بفعل أزمات كجائحة كورونا والجفاف والزلزال، إلى الاتجاه أكثر نحو نموذج “الدولة الاجتماعية”…
لم يتردد بنسودة في الاقتباس من حديث وزير المالية الاشتراكي السابق فتح الله والعلو، ونظّر كأي يساري لانعكاس الاختيارات التدبيرية على مستوى عيش الأسر، وكيف يؤثر مستوى الخدمات العمومية في التعليم والصحة… على ادخار وقدرات الأسر المالية…
ولم تخل محاضرة الخازن العام من رسائل غير مباشرة حين تحدث عن افتقاد البرلمانيين للأدوات اللازمة لقراءة وفهم الوثائق التي تقدم لهم بمناسبة التصويت على القانون المالي، وكيف تعمد الحكومات، وآخرها حكومة أخنوش، إلى تغيير مرسوم الصفقات العمومية ليتناسب مع اختياراتها، مع حرصهم دائما على استثناء أنفسهم من التدابير التي يسنونها لضمان الشفافية والنزاهة… واستدل بنسودة في ذلك بأطروحة إيميل دوركايم حول “الإنسان المزدوج”.
لا يهمّني هنا مضمون تقرير الشامي وندوته ولا محتوى محاضرة بنسودة، بل أريد فقط أن أتقاسم هذا المشهد بمفارقاته وتناقضاته.. بين ما يجري في مجلس ممثلي الأمة، وما تطرحه مجالس نخبة الدولة… وأترك لكم مهمة الحكم والتعليق.