مو إبراهيم.. مُخجل الأغنياء

منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها قاعة المؤتمر في فندق مصنّف بمدينة مراكش، عصر الأحد فاتح يونيو 2025، بدا لي أنني في طريق العودة سأحمل ما هو أثمن من المعطيات والبيانات.
كنت أتصور أنني مقبل على ملتقى سنوي لمؤسسة “مو إبراهيم“، تجمع فيه المؤسسة التي أسسها الملياردير بريطاني الجنسية، سوداني الأصل، تقاريرها ونتائج دراساتها حول الحكامة والتنمية في إفريقيا، وتهيّئ لها جلسات النقاش ومداخلات كبار المسؤولين.
لكنني، في واقع الأمر، حضرت درسا في معنى الإنسانية والسياسة والتواضع، ألقاه علينا شخص اسمه “محمد ابراهيم”، أو “مو” كما يفضل أن يناديه الجميع دون تكلّف.
هذا الثمانيني الأسمر الأنيق، الذي لم يكن يرافقه حارس شخصي ولا حاشية ولا مظاهر استعراض، أبى إلا أن يدير بنفسه أهم تفاصيل الملتقى الذي استقبل عشرات القادة الأفارقة ومسؤولي المنظمات الدولية، على رأسهم رؤساء دول سابقون، ومسؤولو البنك الدولي والاتحادين الإفريقي والأوروبي… وفوق ذلك، تسلّم رسالة ملكية مغربية تُليت في افتتاح الملتقى من طرف مستشار ملكي (أندري أزولاي)، وتابع أشغاله ثلاثة وزراء مغاربة على الأقل (نادية العلوي ورياض مزور ويونس السكوري)، تحدثوا جميعا بلغة إنجليزية “نقية” حسب تعبير ياسين بونو، حارس المنتخب الوطني المغربي.
لكن مو إبراهيم كان أكبر من كل هذا. رجلٌ صعد إلى المنصة فارتطم رأسه بشاشة وضعت بشكل سيء، فابتسم وواصل طريقه، كأنما يخبرنا أن زمن التفاخر والرسميات لا مكان له في مشروعه.
بدأ مو إبراهيم مسيرته من الخرطوم، مهندسا في الاتصالات، قبل أن يبني واحدة من أهم شركات الهاتف النقال في إفريقيا (Celtel)، ويبيعها عام 2005 بملايير الدولارات، ليبدأ فصلا آخر من حياته: فصل إيقاظ الضمير الإفريقي.
أسس مو إبراهيم مؤسسة تحمل اسمه وتُصدر اليوم أهم مؤشر للحكامة في القارة، وتمنح جائزة سنوية بأكثر من خمسة ملايين دولار للرؤساء الذين يغادرون الحكم طواعية وبدون فساد، ويحمل تقريرها السنوي اليوم قيمة مرجعية أكبر من كثير من تقارير المنظمات الدولية.
في مراكش، تابعنا نسخة 2025 من هذا التقرير، المسمّى “Facts & Figures”، والذي أثبت من جديد أن القارة تعاني من نزيف الحروب، وضعف الحكامة، وتبعية اقتصادية شبه تامة للخارج، و.. كثير من الفساد.
لكن ما فعله مو إبراهيم يتجاوز الأرقام. لقد حاور، وبجرأة الصحافي المحنك الذي لا يخشى رقابة ولا قطع أرزاق، الرئيسَ السابق لمفوضية الاتحاد الإفريقي، التشادي موسى فقي، فعرّى أمامنا هشاشة المنظمة، وكشف كيف أن أكثر من 70% من ميزانيتها السنوية تأتي من المانحين الدوليين. سأل ضيوفه: “كيف تزعمون بناء اتحاد إفريقي وأنتم لا تمولونه؟”. ثم التفت إلى القاعة وقال: “عليكم أن تسألوا قادتكم عند العودة، لماذا لا يدفعون؟ حتى مقر الاتحاد الإفريقي بنته الصين!”.
وعندما كان موسى فقي يحاول تجنب “أقصاف” مضيفه باستحضار فصول القانون التأسيسي للاتحاد الافريقي وما يعرف بأهداف “أجندة 2063” الإفريقية، كان مو ابراهيم يقاطعه بحزم: في سنة 2063 سأكون في عداد الأموات، أريد أن أري شيئا ملموسا يتحقق الآن.
حاور المليارير الذي حجز فندقا فاخرا بالكامل لحساب ضيوفه بنفسه، وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي. وبلغة مباشرة خلتها لوهلة خارجة من فم أحد أبرز صحافيي الاستجواب السياسي، حين واجهه بحقيقة أن السودانيين حصلوا على قدر من الرحمة من بريطانيا أكثر مما حصلوا عليه من جيرانهم العرب.
لم يتردّد الرجل ولم يجامل، بل جعل من الملتقى منبرا للمحاسبة والوضوح، لا لتلميع الصور. ولولا “قشابة” الوزير البريطاني ديفيد لامي “الواسعة” لما كان لدبلوماسي من هذا المستوى أن يتحمّل نقد مو إبراهيم اللاذع لنظام منح التأشيرة البريطانية، رغم أنه هو نفسه مواطن بريطاني. “إنها أغلى تأشيرة في العالم… تطلبون ملفا ضخما من الوثائق… لماذا لا تتصرفون كدولة عادية؟!”.
وحتى عندما منح الكلمة للقاعة في ختام استضافته لوزير الخارجية البريطاني، وقام مشارك من زيمبابوي يعاتب المملكة المتحدة لعلاقاتها المحدودة مع بلاده، تولّى مو إبراهيم الردّ عليه فورا، وقال له إن نظامكم مطالب بالكف عن تجاوزاته أولا، ولا حق لكم في المطالبة بتطبيع العلاقات مع دولتكم قبل ذلك.
لم تكن المفاجأة فقط في خطاب الرجل، بل في سلوكه. خلال الاستراحة، كان يقف في الزاوية يحتسي الشاي مع المنظمين، يناديهم بأسمائهم الأولى، يناقش الترتيبات، يبتسم في وجه الجميع.
رجلٌ يحوز ثروة شخصية تقدّر اليوم بأكثر من 1.1 مليار دولار كقيمة صافية، حسب مجلة فوربس، لكنه يعيش بتواضع، وينفق على مؤسسته من ماله الخاص، ويعتبر الثروة مسؤولية اجتماعية لا مجرد امتياز، ويشير بوضوح إلى أثرياء العالم وسياسييه الذين يخفون ثرواتهم في الجنات الضريبية.
لقد خرجت من ملتقى مراكش مشبعا بالأسئلة:
كيف يمكن للأغنياء أن يتحولوا من متفرجين في المآسي إلى فاعلين في مصائر شعوبهم؟
كيف يمكن لأصحاب الشركات والعقارات أن يروا في إفريقيا قارة تحتاج إلى ضمير، لا فقط إلى استثمارات؟
الجواب قد يكون في سيرة شخص رجل واحد… اسمه محمد إبراهيم.
فهو ليس “فاعل خير” بالمعنى التقليدي. إنه من مدرسة جديدة للأثرياء، حيث لا تعني الثروة أن تكتب شيكا لجمعية، بل أن تغيّر مسار النقاش، وتزعج المسؤولين في مواقعهم، وتستثمر في الوعي والكرامة والسيادة.
قد لا يحصل محمد إبراهيم على التقدير الكافي من وسائل الإعلام أو الزعماء الذين لا تروقهم صراحته، لكنه، دون شك، رجل يعيد تعريف معنى الثروة، ويمنح معنى جديدا لعبارة: “القوة الناعمة”. إنه رجلٌ يُخجل الأغنياء.
هذا نموذج لرجلٌ إفريقيٌ وعربي، جمع من المال ما يكفي لأن يعيش في قصور الصمت والراحة، لكنه اختار أن يبقى في صفّ الناس، بين الضحايا لا الجلادين، في حرقة الأسئلة لا الإجابات الجاهزة.
رجلٌ لم تغرِه الأصفار في أرصدته عن صفر الكرامة الذي يهدد الملايين في قارته. يكرّس نفسه ووقته وثروته لا ليُطيل عمر سلطته، بل ليُذكّر الساسة وصنّاع القرار والمتحكّمين في رؤوس الأموال بأنهم بشر، وأنهم مسؤولون عن بشر.
إنه رجل يحاول، بصبر الحكيم ولسان الجريء، أن يجرّهم إلى ساحة الحقيقة، حيث تُستعاد الإنسانية، ويُعترف بما اقترفت الأيادي من خراب. لأنه ببساطة… لا يرى في إفريقيا سوقا، بل وطنا.