story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ملايير الحمامة

ص ص

نشر المجلس الأعلى للحسابات يوم أمس تقريره السنوي الخاص بتدقيق حسابات الأحزاب السياسية برسم سنة 2023.

وإذا كان المفترض أن ينكبّ التناول الإعلامي لهذا التقرير على تقييم سلوك الأحزاب تجاه المال العام وفقا لما يقدّمه هذا التقرير، فإنني سأواصل اهتمامي بشيء آخر، هو التمويل الذاتي للأحزاب السياسية، وتحديدا بتلك المعلومة التي فتحت التقرير السنوي خصيصا للاطلاع عليها، فوجدت أن قضاة مجلس زينب العدوي قد عمدوا إلى إخفائها وحجبها عنّا، بدون أي مبرر سوى توليد شبهة التواطؤ مع الرأسمال الخاص الذي بات يهدّد ببسط سطوته الكاملة على الدولة.

صُدمت بكل معنى الكلمة وأنا ألاحظ كيف حذف المجلس الأعلى للحسابات، السطر الخاص ب”الهبات والتبرّعات”، والتي كانت موجودة في الجزء الخاص بحزب التجمع الوطني للأحرار السنة الماضية، واكتفى هذه السنة ببند يتعلّق ب”واجبات الانخراط والمساهمات”، مقرّا في الوقت نفسه أن هذا الحزب الذي يتصدّر المشهد السياسي والانتخابي حاليا، يعتمد بالدرجة الأولي على هذا النوع من الموارد، بينما تعتبر أموال الدعم العمومي ثانوية.

في سياق سياسي يتّسم بالديمقراطية وسيادة القانون وسمو المؤسسات، كان هذا المعطى سيعتبر فضيلة بما أن هذا الحزب يموّل نفسه بنفسه ويوفّر المال العام؛ لكن في سياقنا السياسي المتخلّف، يعتبر ذلك مصدر قلق مضاعف، وتساؤل حول معنى وجود حزب سياسي في المشهد الوطني لا يحتاج إلى دعم الدولة، في الوقت الذي تعاني فيه أحزاب أخرى، تتسم بالجماهيرية والنضالية، لتوفير الموارد المالية اللازمة لعقد أبسط استحقاقاتها التنظيمية.

اليوم يخبرنا المجلس الأعلى للحسابات، أن حزب التجمع الوطني للأحرار تحصّل خلال سنة 2023، على قرابة مليارين ونصف مليار سنتيم من الأموال الذاتية، مقابل مليار و400 مليون كدعم عمومي. وهو بذلك الحزب السياسي الوحيد، من بين الأحزاب التي تتلقى دعما عموميا، الذي يعتمد أساسا على أمواله الخاصة، بنسبة تقارب 64 في المئة من مجموع موارده، بينما هناك خمسة أحزاب سياسية تعتمد بنسبة 100 في المئة على الدعم العمومي، وتسعة أحزاب يمثل المال العام ما بين 75 و99 في المئة من مواردها، وحزبان اثنان فقط يقل اعتمادهما على المال العام على 60 في المئة، وهما حزبا الاستقلال والعدالة والتنمية، لكن نسبة تمويلهما الذاتي لا تصل إلى 50 في المئة.

في مقالي حول تقرير السنة الماضية، والذي حمل عنوان “حزب “بريفي” ومال سائب“، قلت إن حزب التجمع الوطني للأحرار الذي تبيّن وقتها أن نسبة تمويله الذاتي تناهز 60 في المئة، يجعلنا أمام استثمار خاص في سوق السياسة، ويدفع إلى التساؤل عن الـbusiness plan الذي يعتمده هذا الرأسمال الخاص، والغايات والأهداف التي يرمي إليها، بما أنه يأتي من جيوب وحسابات خواص لا دليل لدينا حتى الآن على أنهم أنبياء أو ملائكة.

بعدها تلقّيت ردود فعل من بعض الأصدقاء الأساتذة والباحثين، من بينهم صديق ذكّرني بدراسة صدرت عن مركز “تكامل”، والتي تحمل عنوان “الحزب الكارتل”، حاولَت فحص وضعية الأحزاب المغربية في علاقة بالتمويل العمومي، انطلاقا من النموذج الذي طرحه الباحثان ريشارد كاتز وبيتر ماير، والذي فسّر تراجع الأحزاب السياسية في الديمقراطيات الغربية، بتزايد اعتمادها على الدعم المالي للدولة، ما يؤدي إلى إنتاج “بيروقراطية” تحوّل هذه الأحزاب إلى أدوات طيعة في يد الدولة.

اعتبرت حينها أن المنطق يغيب عن حالة حزب التجمّع الوطني للأحرار، لأن أعتى الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الجماهير (في مقابل أحزاب الأطر) في أعرق الديمقراطيات، لا تحقق هذه الاستقلالية المالية رغم ملايين الأتباع والمنخرطين.

كما سجّلت أن الأمر لا يتعلق بتمويل الأعضاء والمنخرطين، بل بأكثر من مليارين ونصف مليار كلها عبارة عن هبات وتبرعات.

وشرحت في هذا المقال الذي حمل عنوان “بورصة حزبية“، طبيعة المخاطر التي ترتبط بالتمويل الخاص للأحزاب السياسية، منها عزل الأحزاب كليا عن الدولة والمجتمع معا، لأن الأحزاب التي تعتمد على المال العام على الأقل نعرف أن ولاءها للدولة.

كما يسمح تمويل الأحزاب من طرف الرأسمال الخاص بتمكين شخص او فئة من الأغنياء والنافذين من الوصول إلى السلطة وتحقيق أهدافهم الفئوية أو الذاتية.

وبسطت كيف تضع كل التجارب الديمقراطية قيودا تحدّ من تأثير المال الخاص في الأحزاب، حيث منعت فرنسا منذ 1995 تبرع الشركات الخاصة للأحزاب، وسبقتها هولندا إلى ذلك منذ الستينيات، كما تمنع بريطانيا منطق التبرع بشكل شبه كلي وتضع لائحة حصرية بمن يمكنهم تقديم هبات للأحزاب، بينما تعتمد ألمانيا قائمة بالجهات التي لا يمكنها أن تتبرع للأحزاب، حيث تبقى حصة التبرعات من موارد الأحزاب الألمانية أقل من 10 في المائة…

وفي حالة الحزب المتصدر للمشهد المغربي حاليا، نحن أمام أكثر من 60 المئة من الموارد كهبات وتبرعات. والقانون التنظيمي للأحزاب السياسية يسمح للشخص الواحد بتبرع سنوي يصل إلى 60 مليون سنتيم، أي أن “كارتل” من 50 شخصا يمكنهم توفير الـ26 مليون التي حازها الحزب في سنة واحدة، وهو مبلغ يفوق مجموع موارد حزب الاستقلال مثلا.

أي أن قوانيننا تسمع لشخص واحد، بتمويل حزب سياسي ضخم، عبر جمع بضع عشرات من الموالين وجعلهم متبرعين صوريين… وفي هذا الحالة لا نكون أمام “الحزب الكاترل”، والذي يعني ذلك التكتل الذي يتواطأ للتحكم في الأسعار في سوق معينة، بل نصبح أمام مقاولة في بورصة السياسة.

اليوم ومع التقرير الجديد للمجلس الأعلى للحسابات، انضافت شبهة جديدة حين عمد المجلس الأعلى للحسابات إلى إخفاء حجم التبرعات والهبات ضمن مداخيل الانخراطات والمساهمات، رغم أن حصة هذا النوع من التمويل لن تختلف كثيرا عن السنة الماضية، وبالتالي نحن أمام أكثر من ملياري سنتيم ضحّها خواص في ميزانية الحزب.

وبعملية حسابية بسيطة، سنجد أن الموارد المالية الذاتية لحزب الحمامة، تشكّل قرابة نصف الموارد المالية الذاتية لجميع الأحزاب السياسية، والتي تناهز الأربعة ملايير ونصف مليار سنتيم. نعم، نحن نتحدّث عن حزب واحد من بين 33 حزبا.

وحتى يتّضح الفرق أكثر، فإن ثاني حزب من حيث الموارد المالية الذاتية، هو حزب الحركة الشعبية، الذي اضطرته وضعيته القانونية إلى تمويل مؤتمره بشكل ذاتي، وبالكاد بلغ إجمالي موارده المالية الذاتية 323 مليون سنتيم، يليه حزب الأصالة والمعاصرة، والذي لم يصل حتى إلى عتبة 300 مليون سنتيم.

ولعشاق الأرقام والإحصائيات، فإن الأموال الذاتية لحزب الأحرار بلغت ثلاثة ملايير سنتيم في السنة السابقة، أي 2022، من أصل 7 ملايير كمجموع لموارد الأحزاب السياسية المغربية كلها.

وفي 2021، بلغ مجموع الموارد الذاتية لحزب الحمامة قرابة ثلاثة ملايير ونصف مليار سنتيم من أصل حوالي تسعة ملايير حصلت عليها الأحزاب السياسية مجتمعة، في سنة انتخابية.

الفرق الشاسع نفسه بين حزب الحمامة وباقي الأحزاب يتأكد في العام 2020، حيث سجّل المجلس الأعلى للحسابات قرابة مليار و800 مليون كموارد ذاتية لهذا الحزب، يليه حزب الأصالة والمعاصرة بأقل من 500 مليون.
فيما شكّلت الموارد الذاتية لهذا الحزب أكثر من ثلاثة ملايير في 2019، ومليار و700 مليون في 2018، ومليار و500 مليون في 2017…

هنا نجد لحظة الطفرة في الموارد المالية لحزب الحمامة الزرقاء، حيث لم تتجاوز موارده من واجبات الانخراط والمساهمات في العام 2016، عتبة 130 مليون سنتيم، رغم أنها كانت سنة انتخابية.

تعرفون ما الفرق بين 2016 و2017 بالنسبة لهذا الحزب؟ إنها “عودة” عزيز أخنوش إلى صفوفه بعدما كان مستقيلا ومتبرئا منه.

لقد جاء وزير الفلاحة السابق وجاءت معه الملايير سنويا إلى خزينة الحزب، بما لا يقلّ عن 16 مليار سنتيم من الموارد الذاتية التي جناها الحزب منذ مجيء أخنوش إلى رئاسته.

للأمانة، كان حزب العدالة والتنمية في سنوات أوج صعوده السياسي، يتجاوز في بعض الأحيان حزب التجمع الوطني للأحرار من حيث الموارد المالية الذاتية. لكن المصباح أخبرنا كيف كان يجمع مساهمات مرتفعة من “جيش منتخبيه” السابق في البرلمان والجماعات الترابية، بينما لا يخبرنا حزب الحمامة عن مصدر ملاييره التي تدفّقت عليه مع مجيء أخنوش.

هل يحمل الرجل مشروعا فكريا وايديولوجيات ملهما يجعل ملايين الأتباع يلحقون به حيثما حل؟

وبما أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات توضح كيف أن نسبة الانخراطات في الموارد الذاتية لا تتجاوز 20 في المئة، فمن حقّنا أن نتساءل عن هوية الأشخاص الذين يقومون بالتبرّع بالباقي، وهو بالملايير.

من هم هؤلاء “الكرماء” الذين يهبون حزبا سياسيا كل سنة ما يعادل ميزانية مؤسسات تعليمية كاملة؟

ولماذا يختارون هذا الحزب دون غيره؟

ما هو حافزهم؟

ما الذي يدفعهم إلى هذا الكرم كلّه؟

هل لهم مصالح يستعيدونها عبر الاستثمار في السياسة أم أنهم يتصدّقون ولا يحتسبون؟

إذا كانوا يتبرّعون لله في سبيل الله، فإن من حقّنا أن نعرفهم، ونتبرّك بهم، ونقيم لمن يتوفاهم الله منهم ضرائح ونجعلهم أولياء نزورهم.

فقط أخبرونا من هم!