مستقبلنا بين رصاص وخوارزميات

في أقل من يومين، هزّ العالم خبران متباعدان جغرافيا، متقاطعان دلاليا: اغتيال تشارلي كيرك في قلب الولايات المتحدة، وانفجار احتجاجات عنيفة في نيبال أودت بأرواح وسقطت معها حكومة.
لم يكن تشارلي كيرك مجرّد شاب متحمّس يطل عبر منصّات التواصل، بل كان واحدا من أبرز وجوه اليمين الأميركي الصاعد. أسّس حركة طلابية شبابية محافظة، انطلقت سنة 2012 في الولايات المتحدة، هدفها التأثير في الجامعات ونشر الأفكار اليمينية مثل الدفاع عن اقتصاد السوق، انتقاد السياسات الليبرالية، ومعارضة ما يسمّى بـ”ثقافة الإلغاء” و”اليسار التقدمي”.
وعبر هذه الحركة صاغ كيرك مدرسة كاملة في التعبئة السياسية الرقمية، حيث تحوّل من ناشط في الجامعات إلى خطيب تستقبله الحشود كزعيم ميداني، ويصغي إليه ملايين المتابعين على الشاشات.
كان خطابه حادا، يستفز ويستقطب في الوقت نفسه، يعبّئ جيلا كاملا يرى في دونالد ترامب مخلّصا ومنقذا، وفي “اليسار الليبرالي” خصما وجوديا. لم يمرّ عبر المؤسسات التقليدية للأحزاب، لكنه صار لاعبا سياسيا يصنع أجندة ويحدّد اتجاهات.
لا يعتبر اغتياله نهاية رجل، بل هو رسالة مُرعبة: الديمقراطية الأميركية التي تبيع للعالم خطاب “حرية التعبير”، تحصد في ساحتها الداخلية رصاصا سياسيا يقتل الاختلاف ويزرع الخوف ويكشف هشاشة اللعبة.
تشارلي كيرك، الذي ارتبطت مسيرته بخطاب ما بعد 11 شتنبر، كان يعبّر عن لحظة أميركية قلقة تبحث عن عدوّ جديد. أعاد تدوير مقولة “الهوية البيضاء–البروتستانتية” (WASP) ، بوصفها جوهرا مهدّدا من الداخل، لا من الخارج فقط.
كما انتقد الأكاديميات الليبرالية، وصوّر سياسات التنوع والاندماج كتهديد للهوية الأميركية الأصيلة، ولم يتردّد أحيانا في مساءلة إسرائيل أو سياساتها من موقع الدعم العقائدي نفسه، باعتبارها جزءا من سردية مسيحية–محافظة عن الأرض المقدسة والتحالف الأبدي.
لكل ذلك، فإن اغتياله يتجاوز جسده إلى الرمزية التي حملها: نحن أمام علامة فارقة في المشهد الأميركي، حيث يتحوّل الخلاف السياسي إلى دم، وحيث سؤال الحرية والهوية والدين والعرق يعود إلى الساحة ليس كموضوع نقاش، بل كوقود انفجار.
على الطرف الآخر من آسيا، اهتزّت نيبال، ذلك البلد الصغير المحاصر بين جبال الهمالايا وفقره المزمن، في موجة غضب غير مسبوقة.
ما بدا قرارا إداريا تقنيا، بحظر “تيك توك” وبعض المنصّات الرقمية بدعوى “حماية النظام الاجتماعي”، تحوّل في ساعات إلى شرارة انفجار.
جيل كامل، يقال له “جيل Z” العالق بين بطالة خانقة وهجرة مستحيلة، وجد في الهاتف نافذته الوحيدة إلى العالم. وحين أُغلقت النافذة، تحوّل الحنق إلى شوارع مزدحمة، ثم إلى غضب عارم.
والنتيجة كانت دامية: عشرات القتلى والجرحى، ومقرات رسمية أُحرقت منها مقر البرلمان الذي حوصر تحت هتافات الشباب الغاضب. وفي أقل من أسبوع واحد، انهار نظام سياسي كان يظن أنه يمسك بخيوط اللعبة.
سقط رئيس الوزراء، وتحوّل “قرار سيادي بسيط” إلى أزمة وجودية، تفضح هشاشة العقد الاجتماعي، وتكشف إلى أي حد صار الهاتف الذكي جزءا من المعادلة السياسية، وأي قرار غافل عنه قد ينقلب إلى زلزال.
هنا وهناك، قصتان تبدوان متباعدتين، لكنهما في الجوهر تنتميان إلى زمن واحد: زمن انهيار اليقين.
في أميركا، صارت المنصّات سلّما للسلطة الموازية، يُصعّد زعامات بلا أحزاب، ويحوّل السياسي إلى معرض للرصاص. وفي نيبال، أصبحت المنصّات شريان حياة، مجرّد حظرها يكفي لإسقاط حكومة بكاملها.
الرسالة واضحة: العالم من حولنا يتغير بسرعة مذهلة. وما كان يُعتبر تفصيلا تقنيا أو جدلا ثقافيا، صار اليوم مسألة أمن ودم ونظام سياسي. ونحن أيضا في قلب هذه الموجة، شئنا أم أبينا.
فما الرابط بين مشهدي واشنطن وكاتماندو؟
الرابط أن المنصّات لم تعد مجرد وسيلة. إنها ساحة سلطة. في أمريكا، التحشيد الرقمي أنتج اغتيالا سياسيا. وفي نيبال، قطع المنصات فجّر الشارع وأسقط الحكومة.
في الحالتين، الوسائط الجديدة صارت بنية تحتية للسياسة والأمن، وجدير بنا جميعا أخد العبر التي تقدمها هذه الوقائع:
• العبرة الأولى: السياسة لم تعد حبيسة القاعات المغلقة، لا في البرلمانات ولا في القصور. ومركز الثقل انتقل إلى فضاءات رقمية تُدار بالخوارزميات، حيث سرعة التدوينة قد تسبق البيان الوزاري، وحيث مقطع قصير قادر على تحريك آلاف الغاضبين أو المصفقين خلال ساعات. السياسة اليوم ليست ما يُكتب في المحاضر، بل ما يُبث خلال ثوان على شاشات مضيئة.
• العبرة الثانية: الوساطة التقليدية تفككت. في نيبال، الأحزاب التي يفترض أنها جسر بين الشارع والدولة، عجزت عن امتصاص غضب جيل شاب. وفي أميركا، المؤسسة الحزبية التي أنجبت رؤساء وأباطرة حرب، لم تستطع أن تحمي حياة أبرز وجوه يمينها الجديد. القاعدة صارت أكبر من القمّة، والمنصّة أقوى من المنبر.
• العبرة الثالثة: نحن في زمن التسارع المدوّخ. قرار إداري واحد أو حادث فردي واحد، قادر على دفع بلد كامل نحو الهاوية خلال أيام. دورة الأزمات لم تعد تقاس بالسنوات ولا حتى بالأشهر، بل بالساعات. كل شيء يتسارع: الغضب، السقوط، وحتى النسيان.
بالنسبة لنا في المغرب، قد تبدو هذه الأحداث وكأنها قصص من كواكب أخرى. لكنها ليست سوى انعكاس مُبكّر لما يمكن أن يطرق أبوابنا في أية لحظة.
البعد هنا جغرافي فقط، أما التشابه فمقلق. نحن أيضا نعيش في فضاء عمومي هشّ، تُثقله فجوة ثقة بين المواطن ومؤسساته. نُراكم جيلا كاملا من الشباب الحائر واليائس. جيل يلوذ بشبكات التواصل باعتبارها المتنفس الوحيد، ويستمد منها لغته وهويته ووسيلته للاحتجاج.
نحن أيضا نميل إلى الوصفة السهلة: قرار تقني هنا، مقاربة أمنية هناك، كأننا نعالج كسرا عميقا بضمادة سطحية. والحقيقة أن الدرس صار بليغا: لا سياسة بلا ثقة، ولا استقرار بلا وساطة، ولا وساطة اليوم بلا إدماجٍ واعٍ ومسؤول للمنصات الرقمية في تصور الدولة للمستقبل.
ما جرى في أميركا يكشف خطورة الاستقطاب حين يتحول من كلمات إلى رصاص في قلب الديمقراطية الأقوى في العالم. وما وقع في نيبال يفضح هشاشة المؤسسات حين ترد على الجيل الرقمي بعقلية الحظر والمنع. والمرآة أمامنا واضحة: نحن جزء من عالم تغيّر بسرعة فائقة، ومنطقة زلزالية لا ترحم المترددين.
الدرس لنا، إن شئنا أن نتعلمه، أن تكلفة التجاهل أخطر بكثير من تكلفة المواجهة. أن نواصل إدارة شؤوننا وكأننا في القرن الماضي، يعني أن نصنع الانفجار بأيدينا. وحدها الجرأة في إعادة بناء الثقة، وتحديث أدوات الوساطة، والاعتراف بسلطة المنصات كجزء من المشهد السياسي، يمكن أن تجعلنا ننتقل من موقع المتفرج على أزمات الآخرين، إلى موقع الفاعل الذي يقي نفسه من مصير مشابه.