محاولة دفن جثّة تحت سجادة
سأوفّر على “البعض” من البداية عناءَ أن يتركوا الجوهر ويركِّزوا على القشور.
لا أتّفق مع كثير من ممارسات حميد المهداوي المهنية. لربما أنتمي إلى مدرسة أكثرَ كلاسيكيةً، لكنها أكثر رسوخاً في احترام وظيفة الصحافي، وترتيب الخبر وفق علم الصحافة، وأكثر تشبثاً بالأخلاقيات التي تؤمِّن للصحافة وضعَ امتياز أخلاقي إزاء باقي السلط.
الكاتبُ مقتنعٌ أن الصحافة “سلطةٌ مضادة”، بتعبير الزميل الصحافي مصطفى الفن. ليست فقط سلطةً رابعة أو عاشرة. هي سلطة غير موازية. سلطةٌ مضادة، ومتحيِّزة للحقيقة، ولِحَقّ الشعب في أن يعرف ويفهم. وهذا يجعلها غير حيادية، وفي حالة صدام دائمٍ مع صِنْواتها.
الصحافة لا تتفاوض، ولا تعقد الصفقات، ولا تهتمّ بالتسويات. ومرات لا تهتمّ بـ”الدمار” الذي تخلّفه وراءها في طريق خدمة المجتمع.
حميد المهداوي الآن وجهٌ لـ”سلطةٌ مضادة”. غاضبة، وجامحة، و”هدّامة”.
هذا الجموح والغضب هدَمَ المعبدَ فوق رؤوس “كهنوت” المجلس الوطني للصحافة، الذي انتهت ولايته التأسيسية ولم ينتهوا، وانقضى عمر اللجنة المؤقتة المُعيَّنة ولم يرحلو، وتجاوز التمديد المُتعسِّف ولم يتجاوزوا عتَبَةَ المجلس.
محتلّون يجب أن يصدر في حقّهم حُكم “الإفراغ”، ومنتحلو صفة وهم يكتبون البلاغات ويقدّمون الشكايات ويصدرون القرارات ويصرِفون الميزانيات، و”أعداء للصحافة” حين افتقدوا صفة “الحكماء” وقد ظهر بعضهم جلّادا متعطّشاً للإيذاء، خُلْواً من الوقار بين يديْ محاكمة “زميل” بالنسبة لهم مجرد (زا…).
عابرون لكل إشارات المرور في القانون، ومُشْتبِكون مع مركَّبات مصالح متغوّلة ومتغلّبة، أهوائية ومتحيّزة.
وفي الأخير، نجح المهداوي في جرّهم إلى محكمة الرأي العام “عُراةً” ومتجرّدين من كل امتياز، ومن أيّة حماية جعلتهم يتجرّأون على مؤسسات.
المهداوي تكثيفٌ للغضب بين الصحافيين، الذين نزلت عليهم “الذِّلَة والمَسْكَنة” في زمن “المخربِقين” الذين تجاسروا حدّ إلباس زملاء زيّاً موحّداً كأطفال المدارس، وترتيبهم في صفوف كـ”طالبي المعونة”.
في يوليوز الماضي كتبتُ، في هذا الركن (حبر الختام)، أن المشغولين بـ”تطهير الصحافة من الصحافة” لن يتقدّموا بنا قِيد أُنْمُلَة على طريق حرية الصحافة، ماداموا يَصْدُرون عن رؤية منغلقة، وقد حوّلوا صفحات جرائدهم، وروابط مواقعهم، والصوت المنقول عبر أثيرهم، والصور المتحركة المبثوثة للجمهور عبر قنواتهم، إلى أدواتٍ للتسلّط والتشهير، موظِّفين سلطة الإعلام لإطلاق النار على “كل ما يتحرّك”.
الآن، وبعد فضيحة لجنة الأخلاقيات في المجلس الوطني للصحافة، يشعر صحافيون بالخطر الشديد من آلة دمار شامل، مادام “قضاة المجلس” قادرين على التأثير على القضاء، مثلما زعموا، وبالنظر إلى ما أظهروه من تشنيع بوظيفتهم التَحْكِيمية التي حوّلوها إلى أداةِ تَحَكُميّة.
المشهد الأسوأُ في القصة أن تُجلَدَ الصحافة بسوْط “صحافيين”، وفي مِحرابها. السلطة لم تعد في حاجة إلى أن تُؤَدِّبنا بنفسها. صار “منّا” وُكلاء على استعداد للسّلخ وهم ينفثُون دخان سيجارة.
في مواجهة السلطة تكون “قواعد الاشتباك” واضحة. يكتسب الصحافيون امتيازا وهم يحتمون بالقانون ويترافعون من موقع الانتصار لحرية التعبير والصحافة. وفي زمن “سنوات الرصاص” الصحافية التي يتصدّرها “زملاء باطرونا” يكون الوضع مُربكا، حين نبدو كمن يُحاكم فكرة التنظيم الذاتي الطموحة والصالحة، والمكتسب.
هذا تحديداً ما سوّغ لوزير الاتصال مهدي بنسعيد أن يرمي كتلةَ النار بعيداً عنه، وهو يحدثنا عن الاستقلالية التي عبثت بها قراراته، بتعيين لجنة مؤقتة، ثم التمديد لها، قبل أن يدّعي أنه غير معني.
الوزير بنسعيد يحاول دفن الفضيحة تحت السجادة.
رائحة “جثة” المجلس الوطني للصحافة الميّت منذ 2022 أكثر نفاذاً من نفوذ المتغوّلين. لن تحجبها مساحيق التنظيف، ولا المعطّرات. الأفضل استدارةٌ للاستدراك، وتصحيحٌ حقيقي للاستمرار في تجربة التنظيم الذاتي، لا مجاراة دعاوى العودة إلى الوراء. لا تزال تجربة التنظيم الذاتي صالحة، والفشل يلاحق فقط من حاول اختطافها.
بهذا ننتقل إلى مستوى آخر من المسؤولية. هؤلاء الذين حاولوا، أو كُلِّفوا، باختطاف تجربة التنظيم الذاتي للصحافة عرضٌ لمرض السلطوية الذي يسكن جوانبَ في عقل الدولة. حمل القانون المُحْدِث للمجلس الوطني للصحافة، الذي صدر في 2016، في ذاته بذور الهيمنة عليه من خارجه. وبعدما كان المطلوبُ أن يحوز قطاع الصحافة هيئةَ تنظيم ذاتية حقاً وحقيقة، تحوّل المجلس إلى كل شيء، إلا أن يكون مستقلا.
ولئن كان مفهوماً حضورٌ معيّنٌ لـ”السلطة الحكومية” في اللحظة التأسيسية، فإن تكريس هذا الحضور عبر الهيمنة شوّه التجربة، قبل أن يجري تسخير أعضاءٍ في المجلس الوطني للصحافة لخدمة أهواء الانغلاق، ثم تحويله إلى مسلخٍ، كما في “محاكمة” المهداوي. كان الاستمرار في التدخّل بانتهاك القانون خطأ فادحاً، وتعمّق مع انحياز فاضح لجزءٍ من القطاع، وإقصاء ممنهج لأجزاء كبيرة منه. كان مشهدَ سطوةٍ متنامية من تحالفٍ هَيْمَني.
بصيغة أخرى. نسائل هنا فعلياً توجّها للدولة “منح” الصحافة حق التنظيم الذاتي، لكنه لم يترك التجربة تتطوّر بشكل سويّ، حين أغرقها بالقادرين على أن يكونوا “منّا” نظرياً، لكنهم “علينا” حقيقة.
إننا أمام حالة كان فيها “الحضيضُ مصلحةً”. فكل هذا الهبوط كان مصلحةً لنزوع الانغلاق. ولهذا نكتبُ دوماً في هذا الحيّز لمحاولة إقناع السلطة بأن حرية الصحافة مصلحةٌ، وأنها وإن كانت “رفيقاً مزعجاً” للدولة في الطريق إلى الديمقراطية، فإنها تحمي المَسِير من “قطّاع الطرق”. باستمرار نطرق باباً للإشارة إلى المصلحة المشتركة، لا الحضيض.
قصارى القول
من مقال بديعٍ عن الصحافة الاستقصائية، كتبه إدوي بلينيل، العضو المؤسس لمنصة ميديا بارت الفرنسية، لصالح معهد الجزيرة للإعلام (11/25/2025)، وترجمته المغربية غزلان التنوتي، أقتبس:
“إنه حق أساسي، حيث من حق كل إنسان أن يعرف ما يُفعل باسمه. وكي يتمكّن الشعب من نيل حقوقه أو ابتكارها أو حمايتها، عليه أولاً أن يعرف؛ عليه أن يكون مُطَّلعاً بحرية على كل ما يخصه (..) والصحافة الاستقصائية جوهر مهنة الصحافة، فبالاعتماد على التحقيق الميداني، وكشف الأسرار المخفية، وإظهار الحقائق المحظورة، يكشف هذا النمط الصحفي ما تخفيه السلطات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية لحماية مصالحها الخاصة. ذلك أنها تفضح التناقض بين الخطاب والممارسة، والانتهاكات الأخلاقية، والفساد المستتر، وإساءة استخدام السلطة، والتضارب في المصالح، والجرائم التي تُغطّيها الدعاية.
(..) المهنة لا تُمارس لخدمة مالك الوسيلة الإعلامية أو السلطة الحاكمة، بل لخدمة الجمهور وحده (..) الوظيفة الحقيقية للصحافة في: أن تكون فاعلاً سياسيا في فضح “فضيحة الحقيقة””.
وأزيد من عندي: وفي الدول التي تُغلقُ فيها كل منافذ المعلومة حتى لا تقوم صحافة استقصائية، وتُحارب كل أجناس الصحافة، بسبب تغوّل السلطة، وتمدّد رأس المال، وهيمنة العقل الأمني، يكون (التعبير عن الآراء. الرأي والمقال الافتتاحي والتعليق) فعلَ مقاومة، مادامت “الأنظمة السلطوية – أيًّا كانت – تعد الصحفيين خصومها الأوائل قبل المعارضين السياسيين المعلنين” (بلينيل).
ومرة أخرى، أحيل على “مجلة الصحافة” التي يصدرها معهد الجزيرة نفسه، إلى عدد ربيع سنة 2020، تحت عنوان “صحافي أم مناضل”. مع التسليم المطلق بأن رسالة الصحافة الأولى هي “إنتاج المعلومات، أي الحقائق الواقعية”. وهذا منشأ العداوة ( غير المبرّرة أو المقبولة) للصحافة.
لهذا، المصلحةُ قطعاً في استعادة الصحافة من “قطّاع الطرق”، بعدما “احترقت الطبخة” (تعبير الزميل الصحافي محمد البقالي). كل هذا التلاعب والمناورة يتعمّد ألا تكون هناك صحافة: مقاولات، وهيئات تمثيلية، وصحافيون، وأجور ودعمٌ من المال العام، ومطابع تطبع، ومواقع تنشر، وضجيجٌ.. وفي النهاية “لا توجد صحافة”.