مأساة “باب الشعبة”.. آسفي تغرق في الحزن بعد فيضانات كارثية
لم تكن كارثة الفيضانات التي شهدتها مدينة آسفي، عصر الأحد 14 دجنبر 2025، مجرد أرقام تُتداول في البيانات الرسمية، بل كانت، كما يصفها مواطنون من عين المكان، “مدينة حزينة وحالة مأساوية”، وساعات ثقيلة عاشها السكان بين الخوف، والفقدان، ومحاولات النجاة بما تيسّر من إمكانيات.
في قلب المدينة العتيقة وباب الشعبة، حيث تسربت السيول بسرعة غير مسبوقة، حوّلت الأزقة الضيقة إلى مصائد مائية، ووجد العشرات أنفسهم محاصرين داخل منازلهم ومحلاتهم، في ظل غياب تدخل فوري كافٍ لفرق الإنقاذ في الساعات الأولى.
وأسفرت هذه الفيضانات، وفق آخر حصيلة للسلطات المحلية، عن مصرع ما لا يقل عن 37 شخصاً إلى حدود اللحظة، في حصيلة وُصفت بأنها الأعلى المرتبطة بمثل هذه الظواهر الجوية في المغرب خلال العقد الأخير.
ياسين بنشقرون، ناشط مدني كان حاضرًا بعين المكان، يصف المشهد بمرارة قائلاً: “الجميع يتألم. كنت هناك وتنقلت بين البيوت في البلدة القديمة”، مشيرًا إلى أن السكان كانوا يصرخون طلبًا للنجدة في وقت “غاب فيه تدخل السلطات في البداية عن وسط البلدة القديمة”.
ويضيف أن ما أنقذ الوضع جزئيًا هو التضامن بين المواطنين، سواء من خلال توفير الأكل أو المبيت، مشددًا على أن المطلب الأساسي آنذاك كان “دخول رجال الإنقاذ وعناصر الأمن لحماية ممتلكات السكان”.
وأكد بنشقرون أن المتطوعين ساهموا قدر المستطاع في عمليات الإنقاذ، وسط وضع مأساوي للشوارع والأزقة، خاصة في المناطق المنخفضة، حيث امتلأت بعض الأزقة بالمياه بسرعة قياسية، وغمرت المنازل والدكاكين.
ورغم فقدان السيطرة في الساعات الأولى، برز تضامن لافت بين الساكنة، إذ كان الناس يحملون الأطفال، ويُخرجون كبار السن، ويساعدون بعضهم البعض.
غير أن الوضع، بحسب المتحدث نفسه، لم ينتهِ بعد، إذ مازالت هناك إنذارات بخصوص تساقطات عاصفية ومنخفض جوي قوي في غضون الساعات القليلة المقبلة.
ويؤكد بنشقرون أن هذه الكارثة كانت متوقعة، بحكم أن المنطقة مرتبطة في الأصل بمجرى وادٍ، “وكان من الواجب اتخاذ تدابير وقائية استباقية”، خاصة في ظل التحذيرات الجوية المسبقة.
ويأسف الناشط المدني لعدم تنظيف قنوات الصرف الصحي والمجاري المائية وإزالة العراقيل من الشوارع، رغم التنبيهات السابقة، مذكرًا بوقفة احتجاجية نُظمت سنة 2018 بمشاركة تجار ومهنيين وجمعيات حقوقية بالمدينة القديمة، للتحذير من خطورة الوضع.
من جانبه، يطرح الحقوقي مصطفى أبامني تساؤلات مقلقة حول الحصيلة الحقيقية للضحايا، مشيرًا إلى أن الأرقام الرسمية، التي تتحدث عن 37 وفاة، قد لا تكون نهائية، في ظل استمرار عمليات البحث عن مفقودين.
وأوضح أبامني، أمين الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بآسفي، أن بعض الجثامين جرى انتشالها من منطقة “المريسة الصغيرة” ومن جهة البحر، بعدما جرفت السيول الضحايا في اتجاه قصر البحر قبل أن تصب في المحيط الأطلسي.
وأشار المتحدث ذاته إلى مشكل بنيوي يتعلق بوادي الشعبة، الذي يشكل المنفذ الطبيعي للمياه نحو البحر، خاصة على مستوى المجرى المائي تحت السكة الحديدية.
وبيّن أن انسداد هذا المجرى أدى إلى تغيير خطير في مسار الوادي، حيث دخلت المياه بقوة إلى باب الشعبة، وجرفت الدكاكين والمحال، محاصرة التجار والسكان داخلها.
وأسفرت عمليات إنقاذ قادها شباب من الحي عن نجاة امرأة مسنة من موت محقق بعد أن حاصرتها السيول الجارفة في حي باب الشعبة بمدينة آسفي، بينما كانت المياه ترتفع من حولها وتهدد بابتلاعها.
وظهرت السيدة في مقطع فيديو وهي تتشبث بالحياة وتصرخ: “شادة غير فالحيط… عتقوني!” في لحظات عصيبة كادت تفقد فيها الوعي، قبل أن يتدخل سكان الحي بسرعة ويمدّوا حبلًا باتجاهها لسحبها إلى بر الأمان.
وبعد نجاتها، بكت السيدة وأكدت أنها رأت الموت أمام عينيها، وأن تدخل الجيران كان الفارق بين الحياة والمأساة، مشيرة إلى أن السيول جرفت أقارب لها خلال الحادث، ما زاد من صدمتها وألمها.
كما انتشر مقطع فيديو آخر يُظهر سكان أحد الأحياء وهم يحاولون إبعاد المياه عن منازلهم، وفي الوقت نفسه يعبرون عن استيائهم العميق من الوضع، ومن هشاشة البنية التحتية، وعن غضبهم من تقصير المسؤولين.
وقال أحد السكان بصوت مفعم بالغضب: “لا نريد تنظيم التظاهرات الكروية، نريد إصلاح أحيائنا، هذا يحز في القلب، لا توجد بنية تحتية”.
وأضاف آخر متسائلاً عن ضعف التدخل: “أين الوقاية المدنية؟ أين المنتخبون؟ أين العامل؟ آسفي غرقت بقليل من الماء”. فيما صرّح ثالث: “هذه ليست أول مرة. أبناء الشعب يعانون، الناس تغرق وتموت، أين المسؤولون؟”.
يصف مصطفى أبامني الوضع الإنساني في المدينة بـ”الصادم”، حيث تعيش الأسر بين تشييع الضحايا وانتظار أخبار المفقودين، فيما يتلقى المصابون العلاجات بالمستشفى. وأكد أن الحلول الاستعجالية، رغم أهميتها، جاءت متأخرة، وكان من المفترض إنجاز الأشغال الوقائية قبل وقوع الكارثة.
وبين مشاريع تأهيل معلنة وواقع ميداني هش، تبقى فيضانات آسفي جرس إنذار قوي يفرض مساءلة حقيقية حول التخطيط الحضري، والبنية التحتية، وسبل حماية أرواح المواطنين من كوارث كان يمكن التخفيف من آثارها لو أُخذت التحذيرات على محمل الجد في الوقت المناسب.
وعلى إثر هذه السيول والتقلبات الجوية في مناطق مختلفة من أنحاء المملكة، أعلنت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة تعليق الدراسة في المؤسسات التعليمية بعدة أقاليم على رأسها آسفي إلى جانب كل من تطوان والمضيق-الفنيدق، ورزازات.
وحذرت المديرية العامة للأرصاد الجوية، في نفس السياق، من اضرابات جوية قوية، ابتداء من أمس الأحد، متوقعة هطول أمطار غزيرة مصحوبة بعواصف وثلوج في عدد من مناطق البلاد خلال الأيام المقبلة،في ظل تخوف بصفوف المواطنين حول مدى الجاهزية والبنية التحتية في مواجهة هذه الظواهر.