مأساة آسفي.. “صوت المغرب” تعاين قصصا أليمة للناجين من السيول
مع حلول المساء، بدت المدينة العتيقة بآسفي ككتلة من الظلال الثقيلة، رائحة الموت تملء أزقتها الضيقة الغارقة في ظلام دامس بعد أن قطعت السلطات التيار الكهربائي عن مختلف دروبها منذ عشية الكارثة التي أودت بحياة 37 شخصا في حصيلة رسمية، فيما لا يزال وقع الفيضانات الأخيرة حاضرًا في كل زاوية، ليس فقط في آثار الوحل والطين، بل في وجوه السكان المنهكة ونبرات أصواتهم الخافتة.
خلال جولة ميدانية قامت بها “صوت المغرب”، كان عبور الأزقة يتم على ضوء الشموع والهواتف المحمولة. الأرض زلقة، ورائحة الرطوبة تختلط برائحة الخشب المبلل والأثاث المتلف. هنا، لا شيء يدل على أن الحياة عادت إلى طبيعتها، بل على العكس، يبدو أن الزمن توقف عند لحظة اندفاع السيول.
صادفت “صوت المغرب” شابا عائدا من ميناء المدينة، يقول بنبرة غاضبة: “اليوم نحن بدون عمل، ولن نجد حتى مكانًا ننام فيه أو نأكل”، إسمه مروان، ويعمل بحارا في أحد قوارب الصيد التقليدي، بعد عشية الفيضان، تحول ميناء آسفي إلى كثلة خراب يملئه الفقد والتيه، فيما تهشمت كل قوارب الصيد التي كانت مركونة على عتبة بوابة الإبحار، أصبحت أرضية الميناء يُغطيها وحل الطين، الذي يدل على وصول سيول “وادي الشعبة” إليه.
أسر بلا أغطية… وليالٍ في البرد والمطر
في عدد من المنازل المتضررة، لا تزال الأسر تقيم وسط فراغ شبه كامل. أفرشة وأغطية جرفتها المياه، وأوانٍ منزلية مكدسة في الزوايا وقد أتلفها الطين. المساعدات التي وصلت، بحسب ما عاينته “صوت المغرب”، تقتصر على مبادرات تضامنية فردية من مواطنين وجمعيات مدنية بإمكانيات محدودة، في غياب تدخل منظم يستجيب لحجم الكارثة الاجتماعية.
تقول أرملة في الأربعينيات من عمرها، فقدت زوجها قبل سنوات وتعيش رفقة أبنائها داخل المدينة العتيقة، في تصريح لـ”صوت المغرب”: “كل أوانينا المنزلية تضررت، والأغطية تشبعت بالماء، ولم يعد لدينا أي شيء ننام عليه. قضينا ليلة كاملة في البرد وسط تهاطل الأمطار، وكان الأطفال يرتجفون من شدة البرد”.
وتضيف، وهي تشير إلى زاوية الغرفة شبه الفارغة: “نحن نطالب السلطات بالتدخل فورا. لا يمكننا العيش على هذا الحال”.
في منزل آخر، جلست امرأة مسنّة، فقدت زوجها منذ أكثر من عقد، تحاول إشعال شمعة صغيرة وسط غرفة يغمرها السكون. تقول بصوت متقطع: “الفيضان دخل علينا فجأة، خرجنا حافيين، وتركنا كل شيء. الأثاث بأكمله تضرر، وحتى الملابس لم تعد صالحة”.
وتتابع قولها: “نمنا ليلة البارحة ونحن خائفون، كان البرد قاسيًا والمطر لم يتوقف. نطالب السلطات بإنقاذنا، فلم يعد لدينا مكان نذهب إليه”.
هذه الشهادات تتكرر في أكثر من منزل، حيث تعيش نساء أرامل وأسر هشة وضعًا اجتماعيًا بالغ الصعوبة، في ظل غياب حلول استعجالية للإيواء أو الدعم المباشر.
محلات مغلقة… والبحث عن الخبز على ضوء الشموع
داخل المدينة العتيقة، جميع المتاجر والمقاهي ومحلات التزويد بالمواد الأساسية مغلقة. يضطر السكان إلى مغادرة الحي وقطع مسافات طويلة من أجل اقتناء الخبز، السكر، الشاي، أو الشموع، في وقت تعيش فيه المنطقة شبه عزلة.
وبين الأزقة، تنتشر القوات العمومية عند المداخل، بينما تظل الأوضاع الاجتماعية للمتضررين معلقة، خصوصًا بالنسبة لمن فقدوا منازلهم أو باتت غير صالحة للمبيت.
“هدم بلا إنذار”… غضب التجار
في وسط المدينة القديمة، تحدث لـ”صوت المغرب” ناشط مدني ستيني، أحمد الجعايدي قضى عمره داخل الحي ويملك محلاً تجاريًا لبيع المواد الأساسية، قائلاً: “بدون سابق إنذار، حضرت السلطات رفقة الجرافات وبدأت تهدم أجزاء من محلات تجارية خاصة، دون أي تشاور مع أصحابها”.
ويضيف بأسى: “توفي بعض المالكين، ولم نجد اليوم أحد نتحدث إليه”.
ولا يخفي المتحدث تخوفه من المرحلة المقبلة: “نخاف بالليل من اقتحام ما تبقى من المحلات ونهبها. الوضع خطير، والناس مرعوبين”، قبل أن يختتم حديثه بعبارة غاضبة: “هذه حكرة، وهذا عيب وحشومة عليهم”.
هشاشة سابقة للكارثة
وتأتي هذه التطورات في سياق اجتماعي متوتر أصلًا، إذ كان تجار المدينة العتيقة يواجهون، قبل أيام قليلة من الفيضان، مقررًا صادرًا عن إدارة الحبوس التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، يقضي بمحاولة إفراغهم من محلاتهم، إلى جانب الرفع من السومة الكرائية، باعتبار أن هذه المحلات تابعة للأوقاف، وهو ما عمّق من هشاشتهم الاقتصادية.
وإلى حدود كتابة هذه السطور، ما يزال المواطنون المنكوبون ينتظرون تدخلًا عاجلًا للسلطات من أجل إيوائهم، وتوفير الأغطية، الغذاء، والحد الأدنى من شروط العيش الكريم. في المقابل، عبّر عدد منهم عن استعدادهم للتصعيد، عبر نصب خيام احتجاجية أمام عمالة آسفي، في حال استمرار التأخر في الاستجابة.
وفي المدينة العتيقة، لا يطلب السكان أكثر من الاعتراف بمعاناتهم. نجا كثيرون من الموت تحت السيول، لكنهم اليوم يواجهون امتحانًا آخر: البقاء على قيد الحياة وسط البرد، الظلام، والخوف، في انتظار من يسمع نداءهم.
أمام هذه الأوضاع، وعجز السلطات على التدخل المباشر وفي غياب صناديق مخصصة، بادر مستشارين جماعيين بمجلس آسفي إلى توقيع ملتمس عقد دورة استثنائية، لاتخاذ مقرر جماعي يُرفع لرئاسة الحكومة للاستفادة من تعويضات مالية عبر صندوق الكوارث الطبيعية.
بدأ المبادرة البرلماني السابق وعضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية رضا بوكمازي، وتبعه مستشارون آخرون من مختلف الأحزاب السياسية.
وقال بوكمازي، في تدوينة له، إن آسفي تعيش على وقع فاجعة إنسانية كبرى، بعدما فُجعت في عدد كبير من أبنائها، مخلفةً، وفق معطيات أولية، عشرات الضحايا بين شهداء وجرحى ومصابين ومفقودين، إلى جانب خسائر مادية “لا تُحصى”.
وأوضح المتحدث أن إعلان آسفي مدينة منكوبة يترتب عنه تفعيل مجموعة من الآثار القانونية التي يفرضها هذا الوضع الاستثنائي، بما يتيح تعبئة الموارد والإمكانيات الضرورية لمواجهة آثار الكارثة، وضمان مواكبة المتضررين وتعويضهم.
وشدد عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية على أن اللحظة الراهنة هي بالأساس لحظة مواساة ودعم وإسناد لأسر الشهداء والضحايا وذويهم، داعيًا إلى التضامن والوقوف إلى جانب ساكنة المناطق المنكوبة.
صلاح الدين خرواعي- آسفي