كينيا.. نصف خطوة

ما من شك في أن السياق الإقليمي المرتبط بما يجري في غزة من إبادة ومحرقة، وموقف المغرب الصعب والمحرج في ظل استمرار مظاهر التنسيق والتعاون مع دولة الاحتلال؛ كل ذلك ينتج كتلة سميكة من الضباب تحجب عنا الرؤية، لكن علينا رغم ذلك أن نفرك أعيننا ونتفحّص ما يجري لنا ومن حولنا، ونجزّئ الصورة حتى نلتقط التفاصيل، خاصة ما يتعلّق بقضية وحدتنا الترابية.
ملف الصحراء هو ملف وجودي بالنسبة للمغرب، دولة وأمة. ومهما تشابكت الخيوط وتعقّدت المعادلة وبدا أن الرقم الإسرائيلي بات معطى حتميا في كل محاولة للفهم أو التحليل؛ فإن ذلك يظل نسبيا.
فقد تكون الدولة مخطئة في الاستسلام لمنطق الربط بين القضيتين، الصحراء وفلسطين، وقد يكون لديها من المعطيات والمبررات ما يشفع لها في هذا الاختيار، لا نعلم، لكن ما تؤكده معطيات التاريخ والجيو سياسة، أن ملف الصحراء يظل حيويا ومصيريا بالنسبة للنظام المغربي قبل الأمة.
لحسن حظ المحللين والمراقبين أن الفاعل المركزي في هذا الملف لم يتغيّر مع مرور الوقت، بل ازداد حضوره قوة ورسوخا، وهو الفاعل الأمريكي. وهذا الأخير كان ومنذ الإرهاصات الأولى لبداية النزاع، كان يخاطب نظام فرانكو الإسباني بحجة مفادها أن استقرار النظام الملكي في المغرب مرتبط عضويا باسترجاع الصحراء.
وكان سياق الحرب الباردة حينها يوفّر لواشنطن ورقة ضغط قوية تجاه مدريد لحملها على التنازل أمام المطالب المغربية، على اعتبار النظام الملكي في المغرب حليفا حيويا للغرب، ولا يمكن تعويضه، وبالتالي لابد من دعمه، أو في الأدنى الحفاظ عليه.
أقول هذا وأنا أقصد أن الدولة ومهما بدت لنا عبثية في بعض المواقف والاختيارات، فإنها لا يمكن بتاتا أن تكون عابثة في ملف الصحراء، وحرصها على تأمين استرجاعها لا يمكن أن يكون موضوع أي شك، وكل ما يحيط به هو مجرّد تفاصيل قابلة للتحوّل في هذا الاتجاه أو ذاك، دون أن يتغيّر الجوهر.
لهذا دعونا ننظر إلى هذه المعركة الوطنية الوجودية، ولو لبرهة، بمعزل عن باقي الأحداث والتطورات، ولنقرّ بكل اقتناع أن بلادنا تحقق تقدّما نوعيا، وكل خطوة إيجابية في هذا الاتجاه، تستحق التثمين والإشادة، دون أن يعني ذلك تغييب النقد والحث على مضاعفة اليقظة.
آخر هذه الخطوات ما عرفته العاصمة الرباط يوم أمس، من إعلان مشترك بين المغرب وكينيا، اعتبرت فيه هذه الأخيرة، وهي واحدة من الدول القليلة التي تواصل الاعتراف بجمهورية البوليساريو المزعومة، أن مقترح الحكم الذاتي هو الحل المستدام الوحيد لقضية الصحراء.
هي ليست المرة الأولى التي تتصدر فيها كينيا واجهة المشهد الدبلوماسي الإفريقي في ملف الصحراء، لكنها قد تكون المرة الأهم، لأن ما قيل هذه المرة لم يكن تغريدة محذوفة على عجل، كما فعل الرئيس الكيني بعيد انتخابه قبل ثلاث سنوات، بل بيان مشترك ممهور بتوقيع وزيرها الأول ووزير خارجيتها، صادر من الرباط، ومقرون بتدشين سفارة كينية في قلب العاصمة المغربية (تعبير عن مصالح كينية ناشئة في المغرب)، هي الأولى في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
تعلن نيروبي في هذا البيان، وبوضوح، دعمها لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به المملكة المغربية، وتصفه بأنه “المقاربة المستدامة الوحيدة” لتسوية النزاع الإقليمي حول الصحراء. خطوة تشكل تطورا ملموسا في الموقف الكيني الذي لطالما عُرف بميول داعمة لجبهة البوليساريو، وتُعد ـفي حال تأكد رسوخها واستمراريتهاـ تحولا استراتيجيا يعيد رسم خريطة الدعم الإفريقي في هذا النزاع.
لكن هذا التحول، مهما بدا دبلوماسيا ومحسوما في بيانات الرباط، لا يمكن فصله عن التاريخ القريب جدا. فقبل نحو ثلاث سنوات فقط، احتفى المغرب بتغريدة مفاجئة للرئيس الكيني المنتخب حينها، ويليام روتو، أعلن فيها سحب الاعتراف بالبوليساريو، قبل أن تختفي التغريدة لاحقًا ويظهر روتو في صورة وهو يودع ممثل الجبهة الانفصالية في نيروبي ويتحدث عن تعاون في الصيد والتعدين.
مشهد محير كشف هشاشة التعامل مع ملف في غاية التعقيد مثل قضية الصحراء، في بيئة افريقية كان المغرب قد تركها ساحة مستباحة لخصومه طيلة عقود من انسحابه من المنظمة القارية.
لذلك، فإن القراءة المتأنية لهذا التحول الكيني تقتضي الحذر والتفكيك. فكلمة نيروبي لم تُبن على موقف دبلوماسي ناضج ومستقر، بل على مسار متذبذب بين التلميح والتراجع، بين النفي والتأكيد.
لا يُلغي ذلك أهمية ما جاء في الرباط، لكنه يفرض التذكير بأن المعركة لم تُحسم بعد، وأن معركة الصحراء لا تُربح لا بتغريدة، ولا بصورة، ولا بتصريح عابر، بل برؤية بعيدة المدى ومقاربة داخلية صلبة.
فالمغربي الذي يُنتظر منه أن يتبنى هذا المقترح كحل دائم لقضية الوحدة الترابية، لم يتلقَّ بعد تفسيرا مقنعا لما يعنيه الانتقال من دولة بسيطة إلى دولة بمناطق حكم ذاتي.
والمواطن السوسي أو الزياني أو الوجدي أو الدكالي، لم يُشرح له بعد لماذا ينبغي أن يحظى شريكه في الوطن ببرلمان وحكومة وقضاء خاص، تحت مظلة الرباط فقط في قضايا الدفاع والخارجية والنقد. وما لم يُقنع الداخل، لن يُسعف الخارج مهما علت بياناته أو تعددت سفاراته.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل ما يمثله التقدم المغربي في شرق إفريقيا من إنجاز دبلوماسي واضح. فكينيا، بثقلها الإقليمي ودورها المؤثر في منطقة البحيرات، وانتمائها إلى المعسكر الأنغلوفوني، تمثل خصما تقليديا لتوجهات المغرب، ويكفي أن نتذكر كيف واجهنا معها صعوبة في دعم طلب المغرب بالانضمام إلى الاتحاد الافريقي سنة 2016.
وحين تنضمّ كينيا، أو تعلن عن رغبتها في الانضمام، إلى معسكر داعمي الحكم الذاتي، فهذا يُخلخل التوازنات داخل الاتحاد الإفريقي، ويفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة الداعمة لمقترح الرباط، خصوصا إذا ما ترافق ذلك مع دينامية تنموية، كما وعد الوزير الكيني الأول، الذي وصف المغرب بـ”الاقتصاد الرائد” في القارة.
إنها فرصة ـوليست ضمانةـ للمغرب كي يعيد ترتيب بيته الدبلوماسي الإفريقي، ويحوّل الزيارات والبيانات إلى شراكات حقيقية على الأرض.
أما النجاح الحقيقي، فلن يُقاس فقط بعدد السفارات المفتوحة في الرباط، أو القنصليات المعلنة في الصحراء، بل بمدى انتقال المغاربة من اعتبار الحكم الذاتي مجرد ورقة تفاوضية، إلى قناعة وطنية جامعة تؤسس لمغرب موحد، لا جغرافيا فقط، بل سياسيا ومجتمعيا أيضا.
فلا مغرب قوي وموحد، بدون مغاربة موحدين ومعززين ومطمئنين… مهما بدت البيانات القادمة من الخارج مبشّرة.