story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كلنا ابتهال

ص ص

شيء ما تغيّر يوم الأحد 06 أبريل 2025 بالرباط. ليس في عدد الخطى التي قطعت من باب الأحد إلى قبة البرلمان، فقد سبق للمغاربة أن ساروا بالآلاف، وربما بالملايين. وليس في الشعارات التي رُفعت، فقد سمعنا “الشعب يريد إسقاط التطبيع” من قبل، و”أمريكا عدوة الشعوب” لم تكن جديدة على حناجر المحتجين.

ما تغيّر فعلا يوم أمس هو أن الشارع استعاد نَفَسه، وربما استعاد ثقته بنفسه. وما جعل لهذا النفس معنى ومضمونا، لم يكن فقط كثافة الأقدام ولا وحدة الصفوف، بل روح ابتهال التي خيّمت على الأجواء.

ابتهال أبو السعد، تلك المهندسة المغربية التي رمت كوفيتها في وجه العالم، لا تشبه أولئك الذين يبرّرون الصمت بالحكمة، أو يتوارون خلف الألقاب والمصالح.

لم تخرج ابتهال إلى الشارع، هذا صحيح، بل صنعت شارعا داخل أكبر قاعة في شركة مايكروسوفت، وفي يوم احتفالي مشهود.

أزعجت المهندسة المغربية حفلة الإمبراطورية التكنولوجية بكلمة، وفضحت صفقة بـ133 مليون دولار في جملة، وعلّقت ضميرها على الحائط لتقول “لا” في وجه قوة تبتلع العالم تكنولوجيا، وابتلعت قبل ذلك جثث أكثر من خمسين ألف شهيد في غزة.

فإذا كانت ابتهال قد احتجّت وحدها، داخل قلعة التكنولوجيا العالمية، فإن آلاف المغاربة الذين لبّوا نداء الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، احتجّوا بدورهم، وكلٌّ على طريقته، وصرخوا في وجه الغطرسة التي تريد إقناعنا بألا جدوى من التظاهر، ولا طائل من الشارع، ولا منفعة من صرخة جماعية لا تسقط نظاما ولا تُلغي صفقة.

لكن من قال إن الشارع يُقاس بالنتائج الآنية؟ من قال إن المسيرة الناجحة هي التي تُنهي الحرب في اليوم الموالي؟

الشارع موقف قبل أن يكون أداة.

الشارع استفتاء شعبي في زمن تُحتكر فيه وسائل التعبير والتقرير.

الشارع رسالة تقول لمن بيدهم الأمر، إن صبر هذا الشعب طويل، نعم، لكن بوصلته لم تنحرف.

لا تُقلّلوا من شأن من خرج يوم الأحد. فيهم من قادته القناعة، وفيهم من ساقه الواجب، وفيهم من طرده الألم من جدران البيت إلى ساحة البرلمان. بعضهم يساريون، وبعضهم إسلاميون، وبعضهم لا انتماء لهم سوى غزة. وأغلبهم، مثل ابتهال، لا يبحثون عن كاميرات، بل عن مرآة يرون فيها وجوههم، علّها تنسيهم مشهد وجه أطفال يُدفنون أحياء تحت الركام.

يقول البعض إن التظاهر أضعف الإيمان، وحيلة العاجز. بل هو شرف العاجز، وسلاح من لم يبق له سوى الشارع.

ألا يُذكرنا هذا بما قالته ابتهال نفسها: “لم أوقّع عقدا لكتابة شيفرة تنتهك حقوق الإنسان”؟ هل كانت تظن أنها ستوقف عقود مايكروسوفت وحدها؟ طبعا لا، لكنها قامت بما يجب، وتركت أثرا لن يُمحى، وموقفا يدرّس.

كذلك من ساروا يوم أمس الأحد في الرباط، لم يتوهموا أن موكبهم سيوقف الطائرات، لكنهم عرفوا أن الصمت خيانة، وأن التعبير عن الموقف حياة.

ولمن يُحرّفون النقاش، ويبحثون عن حادثة هنا أو هتاف هناك، لتبخيس مسيرة بأكملها، نقول: هذه حيلة من ضاق صدره بحجم الوجدان الشعبي، ومن انكشف ضعفه أمام مدّ جماهيري يُعيد التوازن إلى معادلات مختلّة.

إذا كان أحد رجالات الدولة قد تعرّض لشعارات حادة، فالمغاربة الأذكياء يفرّقون بين الاحترام الواجب للأشخاص والمؤسسات، وبين الاستخدام الانتهازي لحادث عابر، لتصفية حسابات سياسية.

إن تظاهرة الرباط أعادت التأكيد على أن المغرب ما زال فيه شعب، وأن القيم ليست سلعة موسمية. كما أكدت أن فلسطين، رغم المسافات، ما زالت تسكن قلوب هذا الشعب، حتى وهو يئن من ارتفاع الأسعار وجشع الفساد.

لأنها فلسطين، ولأنها تختصر كل معاني الحق والعدل والكرامة التي يحلم بها كل مواطن هنا، من وجدة إلى الداخلة.

ابتهال لم تكن فردا. كانت صوتا.. كانت مرآة.. كانت شعلة أعادت إضاءة الطريق لمن ظنّ ألا شيء يغيّر شيئا.

وكل من خرجوا الأحد قالوا، بدون مكبّرات صوت ولا ترجمة ولا ذكاء اصطناعي: “كلنا ابتهال”.

والمجد لكل من اختار الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ.