قبل أن تطفأ شمعتي!
هذا آخر عشاء لي قبل أن أطل على عامي الثامن والعشرين. أتناوله بمقصف المستشفى، وهو شبه مطعم مخصص للأطباء المقيمين.
في الصحن بطاطس مهروسة مزينة بجبن مفروم لا رائحة له ولا طعم. يرافق الصحن كأس زبادي بنكهة الفانيلا. أنظر إلى الصحن وأسأل: أين البروتينات؟ يجيبني الطاهي من وراء فرنه، “اللحم غالي أ الطبيبة، غي حياتنا اللي رخيصة”. لا أجيب ولا أعلق.
آخد طبقي، أعطي الزبادي لقطة المقصف، وأسد جوعي بالبطاطس، أتناولها بشوكة بلاستيكية تتكسر أسنانها قبل أن أنهي الأكل، لا خيار عندي، فليلي طويل ومناوبتي أطول.
أخفي الإحباط ومدامعي تبديه. خجولة جدا من البؤس الذي يطوقني ولا أجرؤ على البوح به جهرا. أين الأفق؟ متى الأفق؟
تذكرت مريضا حكى لي في إحدى الليالي، كيف هاجر إلى إيطاليا عن طريق تركيا ثم اليونان فمقدونيا. كيف صمد ساعات وهو يقاوم موج البحر بحثا عن حياة -ليس عن حياة أفضل، بل حياة فحسب- وكيف نجا من الاعتقالات عند كل محطة عبور.
خلته في بادئ الأمر ثملا، يروي قصصا من وحي السكر. فقلت له بشبه سخرية “وماالك على حالك، أضعت مالك وجهدك فحسب”. فرد قائلا: “يبدو أنه يخفاك الشيء الكثير عن واقعنا. في المغرب، المواطن مستعد لدفع الملايين مقابل زواج أبيض، وجواز سفر… غير ما يبقاش يدور هنا”. يبدو فعلا أن «السكرانة» هي أنا.
عم صمت رهيب، كسره صوته وهو يسأل “كم الساعة؟”- -“الثالثة صباحا” -ولا زلت تشتغلين… ثم سأل بجرأة: “كم تتقاضين شهريا؟”، “ثلاثة آلاف درهم”. رد: تتقاضى منظفة البيوت بإيطاليا عشرة آلاف درهم، مقابل ساعات عمل محدودة، فكري في الأمر فحسب.. ونصيحة من “خوك”: هاجري!”.
في منتصف شهر شتنبر الجاري، ليلة “الهروب الأكبر”، حاول مجموعة شباب ولوج محطة البيضاء المسافرين فقوبلت محاولتهم بالمنع من طرف القوات الأمنية.
كانت وجهتهم في الأصل شمال المغرب. وبعد أن أيقنوا ألا فرصة لهم في ولوج محطة القطار من أبوابها، حاول أحدهم القفز من فوق السور، مرتكزا في محاولته على عمود كهرباء عال الجهد، فسقط مصعوقا، بل ومبتور الساق والقدم من فرط الجهد الكهربائي.
عظم فخده مكشوف، وجلده محروق بأكمله. لفظ الشاب العشريني أنفاسه الأخيرة بالمستشفى الجامعي، مبتور الطرف، غارقا في دمائه. مشهد من أفظع ما عشت وعايشت.
كانت أمه تلاحقني في كل مكان، تستعطفني حتى أسمح لها برؤيته. وتردد “ولدي مسكين، قضى ليلته في البيت بيننا، كان حلوما، وذا طموح. بغيت غير نشوفو”.
حرمت الأم من وداع ابنها، لأني لم أرد قط، أن تكون صورته دون طرف، والدماء تحيط به هي آخر ذكرى تعلق بذهن أم قضت من العمر ستا وعشرين سنة تصنع من ابنها رجلا ذا حلم في وطن يجهض الآمال والأحلام. خيبة لا حدود لها وطبيب الإنعاش يقول “C’est une impasse thérapeutique”، عجز لا أشل منه.
في روايته، “لا تطفئ الشمس”، كتب إحسان عبد القدوس: “ليست محاولة الموت هي أشر المحاولات.. إن محاولة الحياة تكون أحيانًا أقسى من محاولة الموت”. وهذا الشاب، وكل من نزحوا إلى الضفة الأخرى، أو حاولوا، محاولتهم في العيش هي بالفعل أقسى وأمر من محاولة الموت.