story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قافلة “المغاربة” إلى فلسطين

ص ص

يختار المرء أحيانا أن يراقب بعض الأحداث من بعيد، بتروّ ودون انخراط سريع أو مشاركة بالرأي، انتظارا توضيح المشهد أو ظهور معطيات كافية.

لكن بعض السرديات، حين تُصاغ بركاكة وبلا ضمير، تستفزّ الصمت نفسه، كأن ينبري بعضهم لإسقاط المسيرة الشعبية المغاربية نحو غزة على نقاش الصحراء المغربية والوحدة الترابية، أو يكلّف نفسه باجتراح نظرية مؤامرة عن دور خفيّ ضد مصر.

هل يشكّل هذا الحراك الشعبي ضغطًا على مصر؟
نعم، بطبيعة الحال.

لكن ومنذ متى كان الضغط الشعبي فعلا مشبوها؟ أليس هو العنصر الوحيد الذي يعادل ضغوط الخارج ويحرّك المواقف؟

ما أحوج كل أنظمة المنطقة، من المغرب وموريتانيا إلى العراق، إلى هذا النوع من الضغط، إن كنّا نبتغي فعلا سياديا نابعا من الداخل.

هل تريدوننا أن نترك دولنا تتحمل ضغط الخارج مجرّدة من ضغط الداخل؟

هل المطلوب أن نتنازل عنها أيضا؟
كلا.

فبينما يزعم البعض أن الضمائر قد جفّت، وأن الشعوب قد انكفأت على وجعها اليومي، انطلقت من تونس قافلة لم تحمل سلاحا ولا صفقات، بل حملت ما تبقى من كرامة الأمة حين تُسحق، ومن إنسانية البشر حين يُذبح إخوتهم على مرأى العالم.

“قافلة الصمود”، ليست مجرد حافلات تقطع آلاف الكيلومترات، بل هي عودة الروح إلى الجسد العربي-المغاربي، وصرخة في وجه التواطؤ، ونداء من تحت الركام إلى ما تبقى من شرف العالم.

ألف شخص من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، تقاطروا بأجسادهم النحيلة، وآمالهم الكبيرة، وقلوبهم المفتوحة على دم غزة.

كانت البداية من تونس، الأرض التي ما فتئت تفاجئنا منذ أن أطلقت أول صيحة عربية في وجه الطغيان. لكن هذه المرة، لم يكن الصراخ من أجل الداخل، بل من أجل فلسطين، التي صارت ميزان عدل الشعوب وامتحان أخلاق الحكومات.

أن تنطلق قافلة كهذه من مغرب الأمة العربي، هو إعلان بأننا لم ننس، ولم نستقل عن وجعنا الكبير هناك.

سار الركب عبر ليبيا الجريحة، حيث تهادت الحافلات وسط المدن المنهكة، وكان المواطنون يخرجون لتحيتهم، كأنهم يتحسسون فيهم شيئا من نبل ضاع في الفوضى. رفعوا لافتات، وقدّموا الوقود مجانا، وقالوا للقافلة: أنتم نحن.

ولأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا حين تكون الذاكرة حيّة، فقد ذكّرتني هذه القافلة بمسير المغاربة قبل قرون، عندما قطعوا الصحارى والبحار والجبال للالتحاق بصلاح الدين الأيوبي في معركة تحرير القدس.

كان أولئك رجالا من المغارب الثلاث، من الأطلس والمحيط، حملوا سيوفهم وقلوبهم وساروا نحو بلاد الشام، فصنعوا حيّ المغاربة بجوار الأقصى، وتركوا أثرهم في قلب المدينة وفي وجدانها.

واليوم، يعود الأحفاد لا على صهوات الخيل، بل في شاحنات صغيرة وسيارات خاصة، يحملون الخبز والماء ووجعا لا يُطاق.

إنه التاريخ إذ يستفيق، لا ليمضي، بل ليذكّرنا من نكون.

وحدهم من يرفض هذه القافلة، اعتادوا أن يقولوا لكل غاضب: اذهب إلى غزة إن كنت صادقا. وها قد ذهب الناس. ولم يحملوا بنادق، بل حملوا وجوها مرفوعة، ولافتات تقول: “بالروح نفديك يا غزة”.
فماذا تقولون الآن؟

منطقكم الملتبس سقط، ومنظومتكم الأخلاقية انهارت.

تحتكر الأنظمة الرسمية التعبير باسم فلسطين منذ سنوات، كما تُدجّن كل مبادرة شعبية، وتحاصر كل حركة تنبع من الناس.

لكن ها هي “قافلة الصمود” تأتي لتكسر تلك الثنائية الزائفة، وتعيد الاعتبار لفعل شعبي حرّ، وعابر للحدود والحسابات السياسية.

لم يعد ممكنا بعد اليوم ادعاء أن الشعوب لا تبالي، أو أن قضية فلسطين أصبحت قضية موسمية، تتبع النشرات الإخبارية.

في الطريق إلى رفح، تنتظر القافلة معارك من نوع آخر. تأشيرات، وموافقات، وتحفّظات أمنية.

تريد السلطة أن تختبر نوايا الناس، وهي التي لم تختبر يوما نوايا قاتل الأطفال في غزة.

ثم يأتي صوت وزير الدفاع الإسرائيلي، ليطالب بمنع القافلة لأنها تهدد سلامة جنوده!

وهل جنود الاحتلال ينثرون الورد فوق رؤوس الغزّيينهنا تتجلى المفارقة الكبرى: دولة نووية ترتعد من حافلة تحمل مدنيين يهتفون لفلسطين.

دولة تُمارس الإبادة، وتخشى الكلمة. تقصف المستشفيات، وتخاف لافتة. تمنع الخبز عن غزة، وترتعب من موكب تضامني انطلق من تونس.

القافلة لا تحمل سوى رغيف وماء، ولا تلوّح سوى برايات تضامن. لكنها تخيف دولة تملك ترسانة نووية، لأن “الصمود” أخطر من الرصاص عندما يخرج من ضمير حر.

هذه ليست مبادرة إنسانية فقط، إنها لحظة جيوسياسية كثيفة الرمزية. ها هو الاتحاد المغاربي ينبعث، بما فيه من أمل وجرح، ويتحرك أخيرا ككتلة حية في سياق عربي متصلب.

إنها خرائط تتشكّل من جديد على إيقاع غزة.

كل قافلة تمر، كل لافتة تُرفع، كل يد تُلوّح من نافذة حافلة… هي صفعة جديدة تُوجّه إلى وجه العالم المتبلّد، الذي يقيس الإنسانية بالمصالح.

وهي أيضا إدانة مباشرة لصمت عربي رسمي، بات جزءا من آلة العزل التي تحاصر غزة.

لقد أظهرت هذه القافلة أن التضامن لم يمت، وأن القضية لا تزال في قلب الناس. لكنها أظهرت أيضا حجم العوائق: كيف يمكن لعشرات الحافلات أن تتحرك آلاف الكيلومترات من دون دعم حكومي، ثم يُطلب منها إذن عبور؟

كيف يُرحب بالمواقف الداعمة لفلسطين نظريا، ويُمنع أصحابها من الاقتراب من غزة فعلياً؟

إنها مهزلة السيادة عندما تتحول إلى عائق أمام الشرف.

في هذا المشهد، تتفوق الشعوب على حكوماتها. تبادر، وتنسّق، وتنظم، وتواجه. لا تنتظر إذنا من أحد لتقول: نحن مع فلسطين.

وهذا التحول هو ما يجب أن يُقرأ بعمق.

لسنا أمام مجرد قافلة، بل أمام إحياء للرباط العضوي بين الشعوب وقضيتها الأولى.

كذب من قال إن شعوب المنطقة استقالت، وإن فلسطين لم تعد تعنيها.

هاهم يعبُرون الصحارى ليمنعوا موت الناس من الجوع، ويقولون للعالم: حتى إن منعتمونا بحرا وجوا، سنأتي برا.
هذه هي الرسالة.

أن نرفض الموت صامتين. أن نعيد تعريف الفعل السياسي خارج قاعات المؤتمرات. أن نجعل من التضامن فعلا مزعجا، ومحرّضا، ليقلق نوم الجناة.

في كل هذا، تغدو “قافلة الصمود” قصيدة مشاة كتبها محمود درويش في السرّ، قبل أن يرحل، وها هي تُتلى الآن على طريق رفح.

فيا غزة، إن لم تصلك الشاحنات بعد، فقد وصلك النبض.

وصوتك، صار يسمعه كل من سار معك، وكل من استقبل القافلة على قارعة طريق، وكل من آمن بأن الكرامة لا تُفبرك.

قافلة الصمود ليست النهاية، بل بداية جديدة لوعيٍ قديم: أن من يقف مع غزة، يقف مع ذاته، مع مروءته، ومع آخر ما تبقّى من نقاء هذا العالم.