قاضية زغبية
كان ياما كان حتى كان الحبق والسوسان، أرض زراعية يقال لها “الحضنة”، حازها معمّر أجنبي، ثم قام ببيعها لمواطن مغربي وفقا لعقد صحيح.
وبعدما أصدرت الدولة المغربية قوانين تقضي باسترجاع الأراضي الزراعية من أيدي المعمّرين الأجانب وتوزيعها على الفلاحين المغاربة بداية السبعينيات، قدّم هذا المواطن المغرب حججه، من عقد شراء وحيازة وتصرّف، ونال وثيقة رسمية تقضي بتخلي الدولة المغربية عن هذه الأرض لفائدته.
كانت لهذا المواطن المغربي بنت مجتهدة، مكّنتها دراستها من الالتحاق بسلك القضاء، والذي قضت فيه قرابة ثلاثة عقود، قبل أن يحملها الوهن الصحي على طلب التقاعد النسبي.
عندما انتهت العائلة من تصفية الحالة القانونية لهذا العقار وراحت تستعد لاستثماره في مشروع، ظهر بداية التسعينات شخص يطالب بحق الشفعة في هذا العقار، أي الحصول عليه مقابل ما دفعه أب القاضية للمعمّر الفرنسي ذات عصر غابر.
رفضت المحكمة طلب هذا “الشافع”، ومضت ثلاثة عقود أخرى، ليظهر شخص جديد في الملف، وهو حامل لوكالة من الشافع المفترض السابق، تخوّله حق التقاضي لانتزاع هذا العقار من الأسرة التي تحوزه منذ أكثر من نصف قرن، إذا احتسبنا الفترة منذ تخلي الدولة رسميا عنه، مقابل نيله نصف مساحة الأرض موضوع النزاع، والتي تقترب من 300 هكتار، مع شراء النصف الآخر مقابل مليار سنتيم، علما أن الأسرة تقدّر قيمة هذه الأرض بحوالي 60 مليار سنتيم.
إلى هنا نحن أمام تفاصيل نزاع عقاري كمثل العديد من النزاعات الأخرى الشائعة، والتي تنتهي باسترداد الحقوق أو ضياعها أو باستغلال البعض للنفوذ فيها أو الانتحار بسببها… لكن الفصل المثير فيها سيحدث عندما شعرت القاضية، بنت الرجل الذي اشترى هذه الأرض من معمّر فرنسي، بانسداد جميع منافذ الأمل في الحفاظ على الأرض، وأعدت مكانا للتصوير في بيتها، وفتحت عدسة هاتفها، وظهرت مرتدية اللباس الأبيض تعبيرا عن حزنها، وأطلقت صرختها.
أعلنت القاضية مليكة العمري في ذلك الشريط يأسها من مساطر أفنت حياتها في خدمتها، ووجهت ندائها إلى الملك، معتبرة أن أسرتها ضحية لتواطؤات، وأنها سمعت من فم مسؤولين أن أمر الأرض محسوم، وإن عليها نسيان أمرها، مع إشارات عن وجود جهات نافذة عينها على تلك الأرض…
سيختفي الشريط بعد ساعات من نشره، بعد مسارعة أبناء القاضية إلى حذفه لما استشعروه من خطر عليها، لكن مسطرة التحقيق مع القاضية المتقاعدة ستتحرك، وبعد أيام، ستجد نفسها متابعة في حالة اعتقال، ليصدر في حقها هذا الخميس 19 شتنبر 2024، حكم بالسجن النافذ ثلاث سنوات.
هل انتهت القصة؟
ربما تكون قصة أرض “الحضنة” في طريقها للحسم بعد هذا المصير الأليم الذي انتهت إليه هذه المواطنة. لكن قصتنا كمواطنين يتابعون سلوك مؤسسات العدالة وإنفاذ القانون، ومآل نزاعات تحوم حولها بالضرورة وبشكل بديهي، شبهات الجشع والطمع واستغلال النفوذ… لن تنتهي.
سوف لن أخوض في التفاصيل القانونية للملف الذي أدى بسجن هذه القاضية المتقاعدة المشهود لها بالاستقامة وسلامة الذمة، لأنه حديث ذو شجون.
لكن كل القانونيين الذين اطلعوا على ملفها يقولون إن الأرض من حقها لأسباب كثيرة من بينها أن الأمر يتعلّق بمسطرة التخلي التي عوّضت عقد البيع السابق مع المعمّر الأجنبي، والتي لا شفعة فيها. ثم لأن الشافع المفترض رفع دعواه بينما كان العقار في مرحلة التحفيظ التي تسمح بالتعرض فقط. ثم لأن الحكم الابتدائي نام قرابة ثلاثين عاما قبل أن يتم الطعن فيه بالاستئناف. ثم لظهور شخص لا علاقة له بالملف ولا بالأرض حصل على حق حيازتها مقابل ثمن بخس. ثم لأن مسارين متوازيين فتحا في هذا الملف، واحد في محكمة الاستئناف وآخر في محكمة النقض، الأول كان واعدا بحسم الملف لصالح الأسرة وكان تقدّمه بطيئا، والثاني كان في غير مصلحتها وهو يتقدّم بسرعة غير طبيعية، وفقا لمحامين وخبراء…
كل هذه الشبهات، كانت تتطلّب موازاة مع فتح التحقيق مع القاضية المتقاعدة، التحقيق أيضا مع من قالت إنهم فاسدون أو متواطئون أو منحازون، والتواصل مع الرأي العام حول هذه التحقيقات، لأنها تتعلق بسلامة مرفق العدالة ونزاهته، وإثبات براءة هؤلاء المسؤولين، ومن ثم مؤاخذة القاضية مليكة العمري، أو تأكيد اتهاماتها لهم ومن ثم اتخاذ القرارات الكفيلة بإنصافها من جهة، وطمأنة عموم المغاربة حول عدالتهم من جهة أخرى.
ملاحقة المواطنين الذين يشتكون من الفساد، ويضطرون بعد يأسهم من القنوات الإدارية والقضائية، واعتقالهم وإدانتهم… كل هذا لا يحمي مؤسسات ولا يصون ثقة ولا يِبعد شبهات. بل العكس، هذا سلوك يحمل على الريبة والشك والخوف والرهبة، خاصة أن المساطر والطرق التي تتبع فيها تتسم بكثير من القسوة.
هذه مواطنة مقيمة فوق التراب الوطني، لها بيتها وأسرتها وكامل ضماناتها للمثول أمام القضاء، يمكن عند الاقتضاء، وخلال الوقت الذي تتطلبه مساطر البحث والتحقيق واستجلاء الحقيقة، التحفظ على جواز سفرها وإخضاعها للرقابة، ومتابعتها في حالة سراح ما دامت لا تشكل أي خطر، إلا على مذنبين مفترضين قد تقوم بفضحهم إذا بقيت حرة طليقة.
فلماذا ستتابع في حالة اعتقال؟
حجة الانتصار لحرمة المؤسسات وصيانة مصداقيتها قد لا يصدّقها حتى من يقدمون على قرارات قاسية من هذا النوع.
مليكة العمري في السجن منذ شهور كمعتقلة احتياطية، وهي فيه الآن بحكم قضائي ابتدائي وغير نهائي، ولا شيء مما قالته هي وأسترها ودفاعها من شبهات حدوث تواطؤات وتلاعبات من أجل الاستحواذ على أرضهم، قد تبدّد.
أمر واحد بات اليوم مؤكدا من خلال هذه القصة، هو أن مليكة العمري قاضية زغبية.
والحكاية مشات مع الجواد.. من واد لواد.