story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

فنزويلا على رقعة الشطرنج الأمريكية: أهداف ترامب الجيوستراتيجية

ص ص

يعكس الدفع بحاملة الطائرات “يو إس إس جيرالد آر فورد” ضمن عملية “الرمح الجنوبي” إرادة واشنطن بإعادة هندسة ميزان القوى في نصف الكرة الغربي في منطقة تعتبرها تاريخيا مجالا حيويا مغلقا بموجب “عقيدة مونرو”، في لحظة تعود فيها إشارات الحرب الباردة إلى الواجهة على نحو يستحضر أصداء أزمة الصواريخ الكوبية ولكن بقواعد اشتباك محدثة ووسائل ضغط متعددة الطبقات. ورغم تغليف الخطوة بخطاب “مكافحة المخدرات”، فإن البنية الجيوستراتيجية للأزمة تكشف أن فنزويلا ليست سوى مسرح عمليات تُدار من خلاله رسائل الردع، بينما تتركز العقدة الحقيقية في المكسيك كمنطقة عبور برية شاسعة. والصين من خلال تدفق الفنتانيل والمواد الأفيونية التي تبدو وكأنها تعيد إلى الغرب فصول “قرن الإذلال” وحروب الأفيون، مستردة رمزية القوة التي فقدتها حين أُذلّت في تلك الفترة التاريخية. وكولومبيا التي تؤكد تقارير وكالة الـDEA  (إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية) أن ما بين 80 و85 في المائة من الكوكايين الداخل إلى السوق الأمريكية ينحدر من أراضيها.

لقد كان الأولى، من منظور حسابات القوة الصلبة، أن يوجه ترامب حربه المباشرة نحو الصين والمكسيك وكولومبيا باعتبارها المحاور الفعلية لمنظومة المخدرات والتنافس الجيوسياسي، لا أن يخوض معركة بحرية ضد فنزويلا التي لا تمثل سوى حلقة ضعيفة في شبكة أعقد بكثير. غير أن فشل واشنطن في تطويع الصين تجاريا عبر اتفاق يحد من اندفاعة بكين الصناعية والتكنولوجية، وغياب عنصر الطاقة عن كولومبيا، جعلا اختيار فنزويلا يبدو أشبه بـتحويل للجهد الاستراتيجي نحو هدف أقل تكلفة وأعلى قابلية للاستثمار السياسي. ويزداد المشهد تناقضا حين يعلن ترامب عن عزمه إصدار عفو رئاسي لرئيس هندوراس السابق “خوان أورلاندو هيرنانديز”، المدان في الولايات المتحدة بتهريب المخدرات والأسلحة ومحكوم عليه بـ45 عاما، في خطوة تكشف ازدواجية صارخة في السياسة الأمريكية: التشدد القصوى ضد فنزويلا مع التهاون أو حتى المكافأة لشركاء إقليميين تورطوا فعليا في شبكات تهريب ضخمة. هذا التناقض لا يعكس فقط ازدواجية المعيار، بل يسلط الضوء على أن القرار السياسي الأمريكي لا يحركه القانون الدولي أو مكافحة المخدرات بالضرورة، بل مصالح استراتيجية وجيوسياسية انتقائية تحدد من يكون هدفا للعقاب ومن يُمنح الحصانة، بما يجعل من المشهد الفنزويلي جزءا من لعبة نفوذ كبرى أكثر منها أزمة إنسانية أو قانونية محضة.

شهدت فنزويلا، التي كانت بين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي رمزا للصعود الاقتصادي في أمريكا اللاتينية بفضل أكبر احتياطي نفطي عالمي وتوافر الغاز والمعادن الاستراتيجية، تحولا دراماتيكيا جعلها نموذجا لانهيار الدول الأحادية المورد في زمن التحولات الجيوستراتيجية الحادة. ومع تفكك اقتصاد الريع النفطي تحت ضغط العقوبات، وتراجع الإنتاج، وانهيار بنية الحوكمة، دخل البلد في دوامة تفكك بنيوي تجلت في تضخم فلكي وانسحاق القدرة الشرائية، وانهيار غير مسبوق للخدمات العامة، وتآكل مؤسسات الدولة. ومع انتقال الأزمة من المجال الاقتصادي إلى المجال الديموغرافي، تجاوزت موجات الهجرة الجماعية ثمانية ملايين شخص، في مشهد لا يُرى عادة إلا في ساحات الحروب، ليجسد انهيار واحدة من أكثر البنى الاجتماعية استقرارا في نصف الكرة الجنوبي، وإن بطريقة تختلف جذريا عن أزمة الأرجنتين عام 2001 التي بقيت داخلية ولم تحوّل البلاد إلى مصدر نزوح عابر للحدود.

إن طرح فكرة إزاحة “نيكولاس مادورو” يعيد استحضار منطق الهندسة الجيوسياسية الأميركية الذي تجلى بوضوح في غزو بنما عام 1989 في عهد جورج بوش الأب. حينها رُوّج للعملية تحت شعار “محاربة المخدرات”، بينما كان الهدف الاستراتيجي إعادة ضبط السيطرة على أحد أهم الممرات البحرية في العالم وإجهاض مفاعيل اتفاقيات كارتر 1979، التي كانت ستمنح البنميين السيطرة الكاملة على قناة بنما بحلول نهاية 1999. وتكرارا لهذا المنطق، لوّح ترامب في بداية ولايته الثانية بضم بنما، بعد أن اعتبرت واشنطن توغل الصين في القناة تهديدا مباشرا لبنيتها البحرية العالمية. واليوم، يتجسد هذا النهج في فنزويلا بصيغة أكثر تعقيدا، إذ أن إعادة تشكيل السلطة في كاراكاس لا تُفهم فقط كمسألة مكافحة مخدرات، بل كتحرك استراتيجي لقطع الطريق أمام النفوذ الروسي والصيني والإيراني، ومنع أكبر احتياطي نفطي في العالم من أن يتحول إلى منصة ضغط مضادة داخل المجال الحيوي الأميركي في نصف الكرة الغربي.

صحيح أن الذاكرة الاستراتيجية للولايات المتحدة تحمل نجاحا عملياتيا محدودا في بنما؛ لكنها مثقلة أيضا بتراث من الإخفاقات المكلفة في أمريكا اللاتينية، من فشل عملية خليج الخنازير عام 1961 حين حاولت قوة منفيين كوبيين مدعومة من الـCIA  إسقاط كاسترو. إلى الانخراط غير المباشر في الحرب الكولومبية عبر برامج “مكافحة المخدرات” التي تحولت إلى نزاع استنزافي امتد لعقود. وفي ضوء هذا الإرث، تبدو أي مغامرة في فنزويلا عالية الكلفة جيوسياسيا، ففنزويلا  ليست بنما إذ تفوق مساحتها ضعفي مساحة العراق الذي يجر هو الآخر للأميركيين ذاكرة مريرة، ولا توجد فيها قواعد أميركية قادرة على توفير جسر لوجستي للتدخل، كما أن كتلة سكانية تناهز 30 مليون نسمة –جزء معتبر منها مرتبط عقائدياً بالنظام– تنتشر على جغرافيا شديدة التنوع من الغابات المطيرة إلى الهضاب والسواحل، ما يجعلها بيئة مثالية لحروب العصابات وتمردات طويلة المدى. أما محيطها الإقليمي، من كولومبيا إلى البرازيل، فلم يعد يشكل ذلك العمق الاستراتيجي المضمون لأمريكا بعد توترات المرحلة الترامبية، بما يقوض أي محاولة لبناء محور داعم لعملية عسكرية واسعة.

وفي هذا الإطار، يصبح التفكير في تدخل مباشر مغامرة قد تشعل ديناميات صراع مفتوح يتحول إلى حرب استنزاف ثقيلة. فروسيا، الساعية إلى توسيع مجالها الجيوسياسي خارج الفضاء الأوراسي، رسخت وجودا عسكريا نوعيا في كاراكاس عبر تزويدها بمنظومات دفاع جوي ومقاتلات راكمت خبرة قتالية مباشرة في أوكرانيا، ما يرفع بشكل ملموس كلفة أي خيار عسكري أميركي. وعلى المستوى الطاقي، بنت Rosneft شبكة تموضع عميق بتوريد النافثا الضرورية لتخفيف النفط الثقيل، مانحة موسكو قدرة تأثير على أحد أهم الشرايين الاستراتيجية لفنزويلا. أما الصين فتشتغل بمنطق الجيواقتصاد، إذ حولت قروضها المقيدة بشحنات النفط إلى آلية استتباع مالي ضمن استراتيجية الحزام والطريق، مستنسخة وصفاتها في أنغولا ونيجيريا لضمان تدفقات ثابتة من الطاقة وتعزيز نفوذها. في المقابل، تتعامل إيران مع فنزويلا باعتبارها منفذا استراتيجيا لكسر الطوق الغربي، عبر دعم قدراتها التكريرية وإعادة تأهيل بنيتها النفطية وتبادل تقنيات الالتفاف على العقوبات، في إعادة إنتاج لنموذج التعاون الذي طورته مع سوريا، ما يجعل كاراكاس حلقة متقدمة في شبكة مقاومة الضغط الأميركي وورقة إضافية في لعبة إعادة توازنات القوة الإقليمية والدولية.

وفي قلب هذا التشابك بين رهانات القوة وأمن الطاقة، جاءت جائزة نوبل للسلام لـ”ماريا كورينا ماتشادو” كمضاعف جيوسياسي يضيف طبقة صلبة من التعقيد إلى صراع يتجاوز حدود فنزويلا. فـ”ماتشادو”، التي برزت منذ احتجاجات 2014، باتت تُعامل في واشنطن كأداة تغيير وظيفية داخل منظومة الضغط القصوى على “مادورو”، خاصة بعد ربط ترامب بين إسقاطه وبين مكافأة مالية للقبض عليه بتهمة الاتجار بالمخدرات. أما الاحتفاء الإسرائيلي بفوزها، فيكشف عن اصطفافات أعمق من مجرد تعاطف رمزي، إذ تعد بالنسبة لبعض اللاعبين جسرا لإعادة هندسة التحالفات التي فكت منذ عهد تشافيز. لكن جوهر المواجهة لا يختزل في أسماء سياسية، بل في سؤال استراتيجي أكبر: من يهيمن على خريطة الطاقة في لحظة يتصاعد فيها التنافس بين واشنطن وبكين؟ فرغم صعود الولايات المتحدة كقوة طاقية بفضل النفط الصخري، فإن بنيتها التكريرية ما تزال تعتمد على النفط الفنزويلي الثقيل، ما يجعل السيطرة على أكبر احتياطي نفطي في العالم مكسبا استراتيجيا يوازي –من حيث الوظيفة لا السياق– استخدام واشنطن ورقة النفط لكبح اليابان قبيل الحرب العالمية الثانية. لكن إدراكها لمخاطر تدخل مباشر في بيئة تتداخل فيها منظومات الدفاع الروسية والخبرة التقنية الإيرانية، يجعل أي مغامرة عسكرية محفوفة بكلفة استنزاف طويلة. لذلك تمسكت واشنطن باستراتيجية “الضغط متعدد الطبقات”: عقوبات خانقة، دعم لغوايدو وماتشادو، عمليات نفوذ نفسي داخل الجيش، وتموضع عسكري هدفه الردع لا الاشتباك، لتتحول فنزويلا إلى نسخة مضغوطة من حرب باردة جديدة تخاض بأدوات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية بالتوازي، فيما يبقى الجوهر صراعا على الموارد الحيوية وإعادة تشكيل ميزان القوى في نظام دولي يتجه بسرعة نحو التشظي.

وفي ذروة الاشتباك الجيوسياسي حول فنزويلا، بدا عرض “مادورو” بمنح الشركات الأمريكية وصولا كاملا لكل مشاريع النفط الحالية والمستقبلية محاولة استباقية لتفادي السيناريو الأسوأ، لكن إدارة ترامب قرأته كمناورة تكتيكية لا تمس جوهر الهدف الأمريكي الساعي إلى تفكيك البنية الحاكمة عبر تنحي “مادورو”، لا مجرد إعادة ترتيب قطاع الطاقة. هذا التشدد المتقابل يخلق وضعا شبيها بـ«نقطة الاشتعال»، حيث يتحول الانسداد السياسي إلى احتمال دائم لتصعيد عسكري مباشر، خاصة في ظل تقارير رويترز عن استعداد كاراكاس لخوض مواجهة عبر استراتيجيات حرب غير متكافئة تمتد من تكتيكات العصابات إلى الاستنزاف الحضري وإغراق المحيط الإقليمي بفوضى محسوبة، في تطبيق كلاسيكي لمدرسة الردع الضعيف أمام قوة تقليدية متفوقة. غير أن ما يختبئ خلف هذه الحسابات هو مأساة دولة انهار نموذجها الاقتصادي–الريعي، فانتقلت من بلد كان مرشحا للحاق بكندا أو كوريا الجنوبية إلى ساحة تجريب لاستراتيجيات القوى المتنافسة على الموارد الحيوية. بذلك تلخص الحالة الفنزويلية قانونا جيوسياسيا صارما مفاده أن الدول التي تبقى رهينة مورد واحد وتفتقر إلى مؤسسات مرنة تصبح قابلة للاستخدام كورقة تفاوض في لعبة تُدار من خارج حدودها. وفي جوهر المشهد، لا يواجه ترامب مادورو فحسب، بل يناطح شكل النظام الدولي المقبل حيث تتقاطع حسابات واشنطن وموسكو وبكين –ومعها القوى الإقليمية الصاعدة– حول السيطرة على الطاقة، والممرات البحرية، وسلاسل الإمداد في عالم يتجه نحو تعددية قطبية صلبة. وبينما تتصارع القوى الكبرى على خرائط المستقبل، يدفع الفنزويليون – كما يفعل السودانيون واليمنيون– ثمن صراع لم يختاروه، لكنه ابتلع دولهم لأنها لم تحصن نفسها أمام أعاصير الجغرافيا السياسية.

صحيح أن ما يفعله ترامب يضع الولايات المتحدة على حدود خرق صريح لمنظومة القانون الدولي، فالحصار البحري واستهداف قوارب الصيادين تحت ذريعة مكافحة المخدرات يمثلان عملا عدائيا غير مبرر ضد دولة لم تظهر تهديدا وشيكا للأمن القومي الأمريكي، فيما يفرض الدستور الأمريكي ذاته قيودا واضحة على صلاحيات الرئيس، إذ لا يمكن شن حرب برية دون تفويض من الكونغرس، ولا يسمح سوى بضربات محدودة تحت بند “الدفاع عن الأمن الوطني” مع إبلاغ المشرّعين. لكن ما يجري اليوم يعكس اتجاها مقلقا يعيد طرح سؤال قديم بلباس جديد: هل نحن أمام لحظة انتقالية تنحدر فيها العلاقات الدولية من شرعية القانون إلى شرعية القوة؟ فحين تستخدم تهم مطاطة كـ”التهديد” و”حماية المجال الحيوي” لتبرير تمدد عسكري خارج الحدود، يصبح النظام العالمي أقرب إلى هندسة توازنات بالقوة الصلبة منه إلى منظومة تدار بقواعد ملزمة. وفي عالم يتسارع نحو تعددية قطبية متوترة، تبدو شريعة الغاب –لا القانون الدولي– هي التي تستعيد حضورها، حيث تحدد الترسانة العسكرية والموقع الجغرافي وموارد الطاقة من يفرض القواعد ومن يجبر على الانصياع لها، في مشهد يعيد تشكيل بنية النظام الدولي على حساب الدول الضعيفة التي تجد نفسها أول من يدفع ثمن هذا الانزلاق.