فرصة لإنقاذ الصحافة
هناك لحظات قليلة في تاريخ الأمم، تُرغِمُ الجميع على النظر إلى وجوههم في المرآة. لحظات تنكشف فيها الحقائق كما هي، بلا أقنعة ولا رتوشات. لحظات يصبح فيها الصمت خيانة، والحياد جبنا، واللغة الملتفّة شريكا في الجريمة.
ما حدث هذا الأسبوع، بعد نشر الصحافي حميد المهداوي لتسجيلات صادمة من داخل ما يسمى بـ”لجنة الأخلاقيات” التابعة للجنة المؤقتة لتدبير شؤون الصحافة، واحدة من هذه اللحظات الفارقة.
إنها لحظة عري جماعي، سقطت فيها الأقنعة، لا عن وجوه أفراد داخل لجنة فاقدة للشرعية أصلا، بل عن منظومة كاملة تسمح بالإهانة الممنهجة وتمنح التفويض الأخلاقي والقانوني للعبث بكرامة الصحافيين وحق المجتمع في إعلام حر ومسؤول.
سيكون خطأ قاتلا أن نختزل هذه الأزمة في أشخاص أو في لجنة أو حتى في مجلس وطني للصحافة في ولايته الأولى.
وسيكون من العبث تحميل أفراد محدودي الاختصاص مسؤولية انهيار منظومة، كما لو كنا نبحث عن قربان نعلّق عليه خطايانا، ونواصل نوما عميقا تحت سقف ينهار.
لقد قلتها منذ بداية النقاش حول تقييم الولاية الأولى للمجلس الوطني وما زلت مصرّا عليها: تجريم أفراد داخل تجربة جنينية بلا جذور في تربة الدولة ولا سلطات حقيقية، ليس إصلاحا، بل هو خدمة مجانية لأجندة التخريب.
والنتيجة أمامنا اليوم: مشهد مُهين، يكشف كيف تُستباح المهنة داخل لجنة فاقدة للشرعية، وكيف يتحوّل التأديب إلى إعدام معنوي، وكيف يمسّ ما رأيناه بجوهر المحاكمة العادلة وبهيبة القانون.
الحقيقة المرّة التي ينبغي لنا تجرعّها، كما كنا نفعل مع وصفات دواء الجدّات، أن أصل الداء ليس في “اللجنة المؤقتة”، بل في قرار سياسي تجرأ على هدم ما تبقى من مؤسسات التنظيم الذاتي، عندما امتنعت الحكومة عن الدعوة إلى انتخابات تجديد المجلس، ثم مدّدت له بمبرر إفساح المجال لتنظيم الانتخابات، ثم أجهزت عليه نهائيا بتنصيب لجنة معينة على رقاب المهنيين، في سابقة سوداء ستبقى وصمة عار في جبين المغرب الحديث.
منذ تلك اللحظة، انطلق الانحدار. لحظة صمت فيها الجميع، أو أسكتوا، بالترهيب أو الرشوة الناعمة أو الخوف من الإقصاء أو الطرد.
لحظة جرى فيها تحويل الجسم الصحفي إلى قبيلة ميليشيات إعلامية، لكل ولاؤها وراعيها ومصالحها وحدودها. وهكذا صار بعض الصحافيين أدوات لإدارة حرب قذرة، بدل أن يكونوا حراس الحقيقة وصوت المجتمع.
لنستعر من زميلنا حميد المهداوي جزءا من شجاعته، ولنُسمِّ الأشياء بأسمائها: العطب بدأ يوم تدخلت الدولة لإعادة هندسة المشهد الإعلامي وتفجير فيدرالية الناشرين وخلق كيانات هجينة من داخل مكتب وزير سابق، استقبل والده ضمن “مكتب” جمعية لم تملك حتى وصلا مؤقتا وفوّض لها الحديث باسم القطاع والتبشير بالدعم العمومي كأنها أتت به من خزائنها الخاصة، في مشهد فاضح وماسخ لتنازع المصالح واستعمال المال العام والمال السياسي لإعادة رسم الخريطة المهنية.
ثم جاءت هذه الحكومة، فاستباحت حرمة الصحافة كما لم تفعل أي حكومة منذ عقود الرصاص، ورعت تخريب منظومة الأخلاق المهنية، واستعملت المال بأنواعه، العام والخاص، كسلاح تأديب، لا كآلية إصلاح.
اليوم، وبعد التسجيلات التي هزّت الضمير العام، لسنا أمام أزمة أشخاص، بل أمام أزمة دولة.
أزمة أسئلة واضحة:
هل تريد الدولة صحافة حرة، أم صحافة موظفين؟
هل تريد إعلاما مستقلا يراقب السلطة، أم خلايا بروباغندا تسبّح بحمد موظّفيها وسياسييها؟
هل تريد مواطنين واعين، أم جمهورا خانعا بلا ذاكرة ولا رأي؟
إن بداية الإصلاح ليست في حل لجنة أو تسمية أخرى جديدة، ولا في محاكمة مجموعة أشخاص لا سلطة حقيقية لهم إلا ما أُعطوا بتعيين وقرار حكوميين، بل في اعتراف سياسي رسمي بخطأ المسار وبالمسؤولية المباشرة عمّا وقع.
على الدولة أن تبدأ بخطوة جريئة واضحة: إيقاف هذه اللجنة فورا، وفتح تحقيق مستقل في ما ظهر في التسجيلات، وتعليق مهام كل من ساهم في هذا الخراب إلى حين انتهاء التحقيقات والحوارات الجادة والحقيقية.
على الدولة أن تخبرنا ما الذي دهاها حتى أطلقت العنان لأجندات التخريب الذي يؤذيها قبل غيرها؟ وكيف سلّمت في حقل حيوي وسيادي مثل الإعلام حتى تستبيحه أجندات صغيرة من حقلي السلطوية والسياسة المسلّحة بالمال؟ وكيف وقفت تتفرّج على مهزلة تحويل التنظيم الذاتي إلى “تفويت سياسي” لم يوقّر حتى عقل الدولة التشريعي، الأمانة العامة للحكومة التي “قبلت” ما لم تقبله يوما في مشروع قانون المجلس المفروض على البرلمان حاليا…
ويا ليت كاميرا تسجيل تنفلت من الرقابة لتخبرنا من كان يطلب ومن كان يدبّج ومن كان ينشر، للضغط والترهيب قصد استصدار هذا المشروع بمضامينه الكارثية.
على الدولة أن تعلن عودة قطار السياسات العمومية في الإعلام إلى مساره الصحيح، وإلى روح الرسائل الملكية الأولى التي أثمرت مناظرات وقوانين ودعما عموميا محايدا سياسيا، واتفاقيات جماعية، وجائزة وطنية محترمة، وبوصلة أخلاقية كانت تبعث على الفخر… قبل أن تلتهمها أجندات صغيرة حولت الصحافيين إلى أطقم مرتزقة تتصارع على فتات النفوذ والامتيازات.
قد يبدو ما أقوله حادا وصادما. لكن ما العمل؟ لا إصلاح بلا صدمة. ونحن اليوم أمام صدمة تاريخية، بفضل شجاعة صحافي قرر أن يتحمّل الألم وحده كي نستيقظ جميعا.
لقد بدأت اللحظة ببكاء رجل يقول إنه يريد فقط أن يكون صحافيا حرا، وقد تنتهي، إن نحن استسلمنا للشخصنة والتلاوم، إلى بكاء وطن يشيّع جنازة مهنة كانت يوما رأسَ أمله.
هذه لحظة نادرة إما أن نلتقطها فتكون بداية الإنقاذ، أو نضيّعها فنستحق الغرق.
وحميد المهداوي ليس قضية فردية. بل هو اختبار أخلاقي وسياسي ووطني. واختبار لمدى قدرة الدولة على احترام دستورها، ولقدرتنا نحن الصحافيين على أن نكون جسما حيا لا قطيعا صامتا.
والسلام على هذا الوطن حين تتكلم الحقيقة.