story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فرصة تحرير القرار الوطني

ص ص

تلقيت حديثا دعوة من أصدقاء محترمين لتوقيع نداء، ربما يصدر قريبا، يدعو إلى المطالبة بإنهاء “التطبيع”، أي قطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل.

وسوف لن أخفي أن الأمر احتاج مني بضع دقائق لاتخاذ القرار وتوقيع النداء، ليس لأن موقفي مضطرب تجاه دولة الاحتلال والإجرام، ولا لأن مشاعري تجاه الأطفال الذين تفجر القنابل أجسامهم الصغيرة باردة، بل لأنني أعتبر مثل هذه المواضيع معقدة ومركبة وتستدعي استحضار الكثير من العناصر للخروج بموقف ذو أساس…

حسمت الأمر خلال دقائق لأنني أحلت الأمر على الإنسان الذي يسكنني، فقرر التوقيع فورا، على أن يعود العقل الشقي إلى مقاربته المركبة لاحقا.

تعقيد وتركيب الموضوع يعود إلى أمر واحد: المغرب واستحضار حيثيات وخصوصيات ومصالح المغرب، وذلك لحتمية منهجية أولا، ثم لأن هناك معطى جديد وغير مألوف علينا أن نقر به وننظر إليه ولا نتجاهله، يتمثل في ظهور طرف (نجهل ملامحه الكاملة) يدافع عن طرح التطبيع بمعناه المائع، ويدافع عن مواقف ومصالح دولة الاحتلال العنصرية ويسخر في ذلك مقولات ومعطيات تمس الوجدان والوعي الوطنيين، من قبيل المكون اليهودي وملف الصحراء والمصالح الاقتصادية والمالية… لهذا لم يعد من الممكن الاستناد إلى المواقف المبدئية والراسخة تاريخيا، للتأسيس لموقف يستحضر هذا المعطى المستجد.

لهذا دعونا نذكر بشكل سريع بسياق عودة العلاقات المغربية الإسرائيلية إلى الحالة الرسمية-العلنية: لقد عشنا منذ بضع سنوات تحت ضغط ضخم ورهيب لما يعرف ب”صفقة القرن”، وكانت تلك الصفقة تقضي بكل اختصار ببيع القضية الفلسطينية من طرف كل من يملكون حصة، مادية كانت أو رمزية، منها، مقابل فتح صناديق المال والاستثمار والرفاه والنعيم لدول المنطقة، بما في ذلك الفلسطينيين الذين كان يقال وقتها إن نصيبهم من هذا النعيم الموعود سيصلهم دون أن يحتاجوا إلى دولة مستقلة.

وكان المغرب في قلب هذه العاصفة، وورد اسمنا منذ البداية ضمن قائمة الدول العربية المطالبة بربط علاقات رسمية مع اسرائيل، وقاوم المغرب تلك الضغوط بشجاعة وصمود كبيرين، فخفض مستوى مشاركته في مؤتمرات تمهيدية، في البحرين وبولونيا… ورفضت المملكة في أعلى مستويات قرارها استقبال وزير الخارجية الأمريكي، بومبيو، عندما حاول نتنياهو ركوب طائرته ومرافقته بشكل مباغث من لشبونة إلى الرباط، بعدما كان الملك قد ألغى مشاركته في مؤتمر إفريقي في ليبيريا عندما تبين أن نتنياهو ينوي حضورها خصيصا للقائه…

وشملت المقاومة المغربية جبهات أخرى مثل الخريطة السياسية الداخلية التي رفض تزييفها لإخراج الإسلاميين منها، وحتى عندما أرغم، نعم أرغم وكل ما جرى من تفاصيل يؤكد أننا أرغمنا على توقيع الاتفاق الثلاثي، كان المغرب يقاوم من حيث يبدو الأمر مؤلما ومتناقضا بحمل رئيس الحكومة الذي لم يكن يعلم عن الأمر شيئا، على توقيع الاتفاق باسم المغرب، وهو زعيم الحزب الإسلامي، أي أحد المكونات الأكثر رفضا لفكرة “التطبيع” داخل المجتمع المغربي.

وجه المقاومة في ذلك كان إصرار المغرب على أنه مختلف ولا يقبل التفريط في قراره ولا الاستسلام للإملاءات الخارجية، وأنه يوقع الاتفاق بيد من يعتبرهم طرف خارجي ضاغط حاجزا أمام مصالح المغرب…

ورغم كل المحاذير التي أحاطت بتوقيع المغرب على الاتفاق الثلاثي، وبلاغات الديوان الملكي التي تضع الحدود، واتصالات الملك بالرئيس الفلسطيني، واستقبال المملكة الرسمي لقادة حم.اس… إلا أن سلوكا انتهازيا استطاع توريط المغرب في شكل ماسخ من أشكال العلاقات مع الكيان المجرم، وراح يستغل السياقين الإقليمي والدولي لفرض نمط مشوه من العلاقات مع هذا الكيان، وراح كأي أجندة خسيسة، يلعب ورقة التضليل وتغليط المغاربة والتشويش على وعيهم الراسخ تاريخيا، بهويتهم وموقعهم ومقومات وجودهم، لدرجة أن مغاربة باتوا يخلطون بين العلاقات المفروضة مع الكيان المجرم واستكمال الوحدة الترابية للمملكة وصيانتها.

نعم، المغاربة الذين قاتلوا الفرنسيين والإسبان، وقبلهم البريطانيين والبرتغاليين وهلم أجناسا غازية، وذهبوا مسلحين إلى الجولان السوري وقاتلوا وقتلوا… هؤلاء المغاربة بات منهم من يشك في بقاء الوحدة الترابية في غياب كيان لقيط مجرم!

طيب هل نحن في لحظة انقلبت فيها موازين الرأي العام، وفرصة أتاحها هجوم 07 أكتوبر 2023 ينبغي استغلالها بكل انتهازية لتغيير هذا الوضع وحمل الدولة على قطع علاقاتها مع إسرائيل؟

من حق الشعوب عموما أن تحمل دولها على الاستجابة لمطالبها ومشاعرها واختياراتها. الدول هنا لخدمة وحماية هذه الشعوب لا لشيء آخر. لكن دعونا نذكر بأن هناك أكثر من مجرد الاستجابة لمطالب شعبية لم تغب عن الفضاء العام منذ قرابة شهر ونصف

الدولة المغربية نفسها، وبصرف النظر عن الموقف الشعبي والمصالح الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تتضرر من الحضور الرسمي لكيان لا ينظر إلى أية دولة عربية إلا كجبهة للحرب والمواجهة، وبالتالي لا يعمل على الاختراق والتفرقة والتلغيم؛ بصرف النظر عن كل ذلك، الدولة المغربية أضعف وأكثر قابلية للإخضاع وانتزاع التنازلات وهي ترتبط بعلاقات رسمية مع اسرائيل، وذلك لسبب بسيط، كونها تصبح دولة معزولة عن محيطها بل وعن عمقها الداخلي.

الدولة المغربية “المطبعة” هي دولة تنفق من رأسمالها التاريخي والرمزي، دولة تتآكل وتنكمش من حيث يقول لها المغررون إنها تغتني وتتقوى وتكبر.

لا قوة ولا ثبات ولا استقرار للدول دون لحمة داخلية ومشروعية مصانة وإشراك للقوى الحية الحقيقية في وضع وتدبير الاختيارات الكبرى.

المغرب الذي “طبّع” علاقاته قبل قرنين ونصف مع الولايات المتحدة الأمريكية، كان ورغم بوادر الضعف والوهن التي بدأت تدب في أوصاله، إمبراطورية ورقما أساسيا في المعادلة الدولية، وأول ما ربطه بالدولة الأمريكية هو تبادل واضح ومتوازن للمصالح، لكونه كان طرفا وازنا في المجال البحري المتوسطي والاطلسي، وكان قادرا على منح التجارة الأمريكية حماية وحصانة ضد الأساطيل الأوربية.

هذا هو مبتدأ وأساس علاقاتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وليس ما يريد البعض إقناعنا به من حتمية قبولنا دور الذيل وربط وجودنا بالخضوع التام للأجندة الصهيونية في أمريكا والعالم.

لقد كتبت وقلت “مبروك” عندما جرى إعلان ما يفترض أنه اعتراف إسرائيلي بمغربية الصحراء، لكن أين هو هذا الاعتراف اليوم؟ وأين هو حتى الاعتراف الأمريكي؟ هل أصبح الاتفاق الثلاثي فعلا ورقة نضغط بها على الأوربيين أم إنه قيد يكبلنا ويخضعنا للنادي الحضاري الذي صنع واحتضن كيان الاحتلال؟

لقد كتبتها أيضا منذ أكثر من عامين: هناك من اعتقد أننا سنكبل أمريكا بالورقة الاسرائيلية، بينما الذي حصل هو أن اسرائيل كبلتنا بأمريكا، فراحت تبعث إلينا من يهيننا ويجرح مشاعرنا الوطنية في عقر دارنا.

لقد حضرت الندوة الصحافية التي عقدها السفير الأمريكي السابق، ديفيد فيشر، مختتما مهمته في المغرب بداية 2021، وسألته فيها عن سبب تأخر تنفيذ الشق المغربي-الأمريكي في الاتفاق الثلاثي، وتحديدا ترجمة الاعتراف بمغربية الصحراء إلى قنصلية في مدينة الداخلة، فكان جواب الدبلوماسي الأمريكي، بأن قال إنه على يقين من كون العلاقات المغربية-الإسرائيلية ستتطور بسرعة لتصل إلى مستوى تبادل السفراء بدل مكاتب الاتصال.

شعرت وقتها أن السفير الأمريكي لم ينظر إلي كصحافي مستقل يطرح سؤالا، بل كمبعوث من “المخزن” جاء ليدس له هذا السؤال فأجابني بما أراد تبليغه إلى الدولة المغربية، أي ارفعوا مستوى علاقاتكم مع اسرائيل إذا أردتم القنصلية…

بقدر ما ساءني سلوك السفير الأمريكي، وهو حتما نتيجة لفكرة قيلت له في بداية مهامه من كون الصحافة في المغرب غير مستقلة وتتحكم فيها الدولة بشكل كامل… بقدر ما همني ما كشفه هذا الجواب الدبلوماسي من خلفية واضحة لما يجري في الواجهة.

لهذا أعتقد أن تجميد أو قطع العلاقات مع إسرائيل يحرر الدولة ويحرر قرارنا الوطني.

لا أحد يدعو إلى التصعيد أو المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل أعتبر شخصيا أن المعسكر الغربي هو أفضل خياراتنا الممكنة، لكن خطوة من هذا النوع ستعيد علاقتنا بحليفنا الأمريكي إلى دائرة توازنها التاريخي، ويحررنا من الضغط الأخلاقي الذي يمارسه علينا خصومنا في الجوار، ويحررنا من مناورات المعسكر الانتهازي الذي يعيش بيننا، ويحاول جر أمة كاملة إلى حتفها، نظير مصالح وفوائد فئوية عابرة.