“فراقشية” الانتخابات

في مجال تدبير الشأن العام، لا تُعتبر الإعفاءات الضريبية جريمة، كما أن الدعم العمومي في ذاته ليس وصمة عار، بل قد يكون أداة ناعمة ومشروعة تتدخل بها الدولة لتصحيح اختلالات السوق ومواجهة الأزمات.
بل إن إعفاءات كمثل تلك التي أقدمت عليها الحكومة في مجال استيراد الأبقار والأغنام والماعز والجمال، هي بالضبط ما طالبنا به مرارا في قطاعات أخرى، مثل قطاع المحروقات.
لقد طالبنا مرارا الدولة بالتنازل عن جزء من عائداتها الضريبية، وعدم الاستفادة من فترات التضخم وغلاء الأسعار، لأنها تجني عائدات ضريبية استثنائية، خاصة من الضريبة على القيمة المضافة… والحمد لله أنها لم تفعل!
فالدعم يفقد معناه، بل يتحوّل إلى أداة فساد وتبذير، عندما يُوزّع بلا رقابة، ويُصرف دون تتبع للأثر الاجتماعي، ويُمنح لفئة محدودة تحت مسمى “الاستيراد”، بينما المواطن البسيط، الهدف المفترض من هذا الدعم، يواصل شراء اللحم بأسعار فلكية. تلك هي خلاصة فضيحة تستحق بدون أدنى تردد لقب “فراقشية-غيت“.
المغاربة الذين يملكون نصيبا من الثقافة البدوية، وما أكثرهم، يعرفون جيدا من هم “الفراقشية”، تلك الفئة المتخصصة في سرقة المواشي، خاصة منها الأبقار ذات المردود المرتفع والمضمون في سوق اللحوم الحمراء.
هؤلاء لا يقتصرون على التربص بضحاياهم في الأسواق أو أثناء توجّههم إليها، بل إنهم يعمدون إلى سرقة الأبقار من “المنبع”، أي من حظائر أصحابها، بعد عملية تخطيط وتربّص طويلة، تنتهي بالتنفيذ عبر إحداث ثقب في مكان مدروس من البناية، والتي غالبا ما تكون من تراب. فيتمّ إخراج البهائم من الجهة الخلفية للبيت، أي بعيدا عن الأبواب المراقبة والمحروسة بالكلاب في الغالب… وهذا بالضبط ما حصل معنا في دعم استيراد المواشي.
بدأت الحكاية بمشكلة حقيقية: ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء، وتقلّص العرض المحلي بسبب ما قيل إنه الجفاف وندرة الأعلاف… ثم ظهرت نوايا الحكومة الحسنة على الورق، حين قررت منذ أواخر العام 2022 تعليق استيفاء رسوم استيراد الأبقار، ثم رفعت عدد الرؤوس المسموح باستيرادها إلى 120 ألف رأس، قبل أن تشمل الأغنام لاحقا، وتضيف إعفاء من الضريبة على القيمة المضافة، ودعماً مباشراً بـ500 درهم عن كل رأس غنم مستورد لعيد الأضحى…
مع مرور الوقت، تبيّن أن كل تلك الإجراءات لم تحقق أثرها المنشود. لم تنخفض الأسعار، ولم يُكسر الاحتكار، بل ارتفعت أرباح بعض كبار المستوردين، حتى وصل هامش الربح حسب تصريحات الوزير رياض مزور إلى 40 درهما للكيلوغرام الواحد.
الأدهى والأمرّ من ذلك، أن هؤلاء المستفيدين لم يتجاوزوا في المجموع عتبة ال200 تاجر محظوظ، حصلوا مجتمعين، وإلي حدود أكتوبر الماضي، على أكثر من 13 مليار درهم، بمعدل يقارب 40 مليون درهم لكل مستورد، حسب عملية حسابية قام بها الخبير الاقتصادي محمد بنموسى.
رقم صادم، لا لكونه ضخما فقط، بل لأنه وُزّع دون شروط، ودون التزام بتخفيض الأسعار، ودون مساءلة تُذكر.
وللصدفة، فإن أول تاجر استفاد من هذا الإعفاء وأدخل أول شحنة من الأبقار المستوردة وفقا لمرسوم تعديلي صدر في 30 يناير 2023، هو قيادي في حزب رئيس الحكومة… اللهم زد وبارك.
خطورة هذه الفضيحة لا تكمن فقط في حجم المبالغ، بل في اعتراف الحكومة الرسمي بأن الإجراءات التي اتخذتها فشلت في تحقيق أهدافها.
وثيقة من 260 صفحة قدمتها الحكومة للبرلمان في أكتوبر 2024، كانت كافية لتفنيد كل محاولات التهوين، وأكدت أن الدعم لم يؤدّ إلى تخفيض الأسعار، ولا إلى وفرة العرض، وأن الخزينة العمومية تحمّلت أكثر من 8 مليارات درهم في استيراد الأبقار، و5 مليارات درهم في استيراد الأغنام، وكل ذلك دون أي أثر ملموس على السوق.
ومع ذلك، فإن الفضيحة ستأخذ منحى أكثر فداحة حين نعلم أن الحكومة، بعد كل هذا، قررت تكريس الإعفاءات الضريبية في قانون المالية لسنة 2025، بدل وقفها أو مراجعتها أو على الأقل إخضاعها لتقييم مستقل.
فهل نحن أمام حكومة تتعلّم من الأخطاء؟ أم أمام منظومة تسعى لتكريس الريع وتوسيع شبكات المستفيدين منه؟
ما يجعل من “فراقشية-غيت” أكثر من مجرد تبذير، هو السياق السياسي الذي يجري فيه. فالمستفيدون من هذا الدعم ليسوا مجرد فاعلين اقتصاديين في السوق، بل كثير منهم يرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بالحياة السياسية والانتخابية، خاصة في الأوساط القروية والهامشية، حيث تُطبخ التحالفات، وتُشترى الأصوات، وتُصنع النتائج الانتخابية قبل أن تُعلن…
وأتمنى أن تكون لبعض وجوه المعارضة الجرأة الكافية لإخراج ما تردّده حاليا في الخفاء حول بعض الأسماء، إلى العلن، معززا بالحجج والدلائل.
التمويل العمومي الذي كان يفترض أن يُسخّر لحماية القدرة الشرائية للمغاربة، أصبح في واقع الأمر أشبه بـ”بنك تمويل سياسي تحت الأرض”، حيث يتم تمويل “الفراقشية”، أي بعض مستوردي المواشي (أقول بعض لأن هناك حتما ضمن القائمة مستوردون نزهاء) الذين راكموا أرباحا دون التزام، ممن يحتكون بالمواطنين في الأسواق الأسبوعية، والمجالات القروية، حيث يسهل شراء الذمم، وتجييش الناخبين، وابتزاز الفقراء في لحظات الحسم الانتخابي.
الوزير مزور نفسه اعترف بذلك من حيث لا يدري، حين قال إن الحكومة اضطرت للجوء إلى “التشهير العلني” بالمضاربين، وأن الضغط الإعلامي والسياسي كان ضروريا لكبح جماح أرباحهم.
لكن ما لم يقله الوزير هو أن هؤلاء المضاربين، هم أنفسهم ذراع انتخابي محتمل في مناطق لا تزال تعيش بمنطق الزعامة التقليدية، حيث البقرة المدعّمة قد تُستبدل بشحنة أصوات انتخابية في الغد القريب.
المثير في هذه القصة أن النزيف لم يتوقف. بل بالعكس، فإن أرقام مكتب الصرف تُظهر أن واردات الحيوانات الحية تضاعفت أربع مرات مع بداية سنة 2025، مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2024.
ففي شهري يناير وفبراير فقط، وصلت واردات المواشي إلى أكثر من مليار درهم، مقابل 252 مليون درهم في نفس الفترة من السنة السابقة. أي أن القطار فائق السرعة لا يزال منطلقا، والإعفاءات ما تزال تُمنح، والدعم مستمر… والنتيجة لا تزال غائبة.
بل إن المواطن، الهدف المفترض لكل هذا الدعم، لا يزال يشتري اللحم بـ100 درهم للكيلوغرام، بينما من حصلوا على مئات الملايين من التحفيزات باسم هذا المواطن، يتاجرون بحرّية، دون قيد أو شرط.
إنها ليست هذه فضيحة اقتصادية فقط، بل هي قضية عدالة ضريبية، وقضية نزاهة سياسية، وقضية أخلاقية بامتياز.
فحين تنقل الدولة المال من جيب المواطن الفقير إلى حساب تاجر غني، وتفعل ذلك باسم “الدعم”، ثم تكتشف أن التاجر لم يلتزم بأي شيء، ولا تُحاسبه، فنحن أمام حالة من الانهيار في منطق الدولة، وفي مسؤوليتها الاجتماعية.
والأخطر من كل ذلك، هو أن يُستعمل هذا المال العمومي في إفساد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. أي أن يتحوّل دعم البقر إلى تمويل للزبونية، وشراء للأصوات، وتحويل الفلاح الفقير والمواطن القروي، والمهمّش في المدينة، إلى ورقة انتخابية تُباع وتُشترى، بفعل دعم تم منحه لأشخاص لم يُراقبوا، ولم يُسائلوا، ولم يُحاسبوا.
“فراقشية-غيت” ليست مجرد ملف مالي مفتوح، بل هي اختبار حقيقي لمصداقية الدولة. فإما أن تُبادر الحكومة إلى التحقيق والمساءلة واسترجاع الأموال التي لم تؤدّ دورها الاجتماعي، أو أن تظل متواطئة بصمتها، وتمنح شهادة ميلاد لريع انتخابي قد يُعيد تشكيل الخريطة السياسية للبلاد، والله وحده أعلم بالمخلوقات التي ستأتي بها إلى البرلمان والمواقع التدبيرية.
إما أن نُقر بأن المواطن يستحق دعما حقيقيا يلمسه في لحم طبق طاجينه، وإما أن نُسلم بأن “الفراقشية” هم من يحكمون فعلا… بظهر البقرة.