story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
إعلام |

فاجعة طائرة منتخب زامبيا 1993.. حكاية المنتخب الذي عاد من الموت

ص ص

في كل مرة يتقاطع فيها اسم زامبيا مع المغرب في كرة القدم، لا يعود الأمر مجرد مباراة تُحسم في تسعين دقيقة. حتى عندما يبدو الموعد عاديا على الورق، كما هو الحال الليلة (الاثنين 29 دجنبر 2025) في الرباط، حيث يواجه المنتخب المغربي منتخب زامبيا في آخر جولة من دور مجموعات كأس أمم إفريقيا المغرب 2025، فإن ذاكرة القارة تستدعي تلقائيا قصة أعمق من جدول ترتيب ونقاط تأهل. إنها قصة فاجعة طائرة 1993، الحادث الذي خطف جيلا كاملا من لاعبي زامبيا، قبل أن يُعيد هذا البلد بناء فريقه من الصفر، ويحوّل الحداد إلى معنى كروي ممتد عبر العقود.

المباراة نفسها، بحسابات البطولة، مهمة بطبيعة الحال، لأنها تُلعب على أرض ملعب الأمير مولاي عبد الله بالرباط، وتأتي في ختام مرحلة المجموعات، حيث يسعى المغرب لتأكيد الصدارة بينما تبحث زامبيا عن بطاقة العبور. لكن هذه التفاصيل، على أهميتها، ليست سوى “مناسبة” تُعيد فتح ملف إنساني ورياضي من أثقل ما شهدته اللعبة، يتتعلّق بحادثٌ لم يقتل لاعبين فقط، بل قتل ما كان يُنظر إليه في مطلع التسعينات كأحد أكثر أجيال الكرة الإفريقية وعدا، قبل أن ترد زامبيا، بعد أقل من عام، بفريق جديد وصل إلى نهائي كأس أمم إفريقيا 1994، ثم عاد بعد سنوات ليكتب فصل “الخلاص” بتتويج 2012 قرب المكان نفسه الذي سقطت فيه الطائرة.

الحكاية تبدأ من رحلة عسكرية وتنتهي في البحر

مساء يوم 27 أبريل 1993، أقلعت طائرة عسكرية تابعة لسلاح الجو الزامبي، من طراز de Havilland Canada DHC-5 Buffalo، ضمن رحلة كانت تبدو روتينية في زمن لم تكن فيه اتحادات كروية كثيرة قادرة على تحمّل كلفة الرحلات التجارية الطويلة.

كانت الطائرة مخصصة لنقل أغلب عناصر المنتخب الزامبي في طريقهم إلى داكار لمواجهة السنغال ضمن تصفيات كأس العالم 1994.

المسار نفسه كان يحمل إشارات إنذار لم يلتقطها أحد بما يكفي. فالرحلة كانت يفترض أن تتوقف للتزوّد بالوقود في ثلاث محطات هي برازافيل أولا، ثم ليبرفيل بالغابون، ثم أبيدجان قبل الوصول إلى داكار.

في المحطة الأولى سُجّلت بالفعل مشاكل مرتبطة بالمحرك، لكن الطائرة واصلت طريقها. وبعد دقائق قليلة من إقلاعها من ليبرفيل، اشتعل المحرك الأيسر وتعطل.

هنا، حسب خلاصات التحقيق الرسمي وتقارير التحقيق الغابونية، حدث الخطأ القاتل: بدل أن يُطفئ الطيار المحرك المشتعل فقط، قام، عن طريق الخطأ، بإطفاء المحرك السليم أيضا، لتفقد الطائرة الطاقة أثناء الصعود وتسقط في المحيط على مسافة قريبة جدا من الساحل (حوالي 500 متر).

النتيجة كانت صادمة: لا ناجين. لقد قُتل 25 راكبا و5 من أفراد الطاقم، وكان من بين الضحايا عدد كبير من اللاعبين والطاقم التقني. في مثل هذه اللحظات، لا يعود السؤال “كيف خسر المنتخب لاعبين؟” بل “كيف تخسر دولةٌ فجأة رمزها الأكثر جماهيرية؟”، لأن المنتخب في بلدان كثيرة، خصوصا في لحظات اقتصادية أو سياسية مضطربة، يمثل مساحة عامة نادرة للفخر المشترك، والهوية، والفرح الجماعي. وهذا ما جعل فاجعة زامبيا تُقرأ منذ البداية كأكثر من حادث طيران: لقد كانت زلزالا في معنى الوطن نفسه.

لماذا نجا كالوشا بواليا؟

أشهر اسم ارتبط بالفاجعة هو كالوشا بواليا، النجم الذي لم يكن على متن الطائرة، فنجا من الموت، ثم حمل لاحقا عبء إعادة بناء المنتخب.

تقاطعت طرق نجاة كالوشا مع واقع كرة القدم آنذاك: وجوده في أوروبا جعل رحلته مختلفة عن رحلة اللاعبين القادمين من زامبيا، فكان سيصل إلى داكار عبر مسار سفر منفصل، وهو ما أبقاه بعيدا عن الطائرة المنكوبة.

نجاة بواليا لم تكن “نجاة فرد” فقط؛ بل سرعان ما تحولت إلى رمز مزدوج: رمز الحظ القاسي الذي يختار من يبقى ومن يرحل، ورمز المسؤولية التي تسقط فجأة على كتف لاعب واحد. أن يتحول هذا اللاعب من نجم داخل فريق إلى قائد مشروع إنقاذ وطن كروي كامل.

لهذا تكررت على لسانه لاحقا صيغة الندم التي تلخّص الشعور الجماعي: ما ضاع في ذلك اليوم لم يكن أسماء لاعبين فحسب، بل طموحا كان يمكن أن يصنع إنجازا كبيرا.

عندما يتحول الملعب إلى مقبرة وطنية

بعد الحادث، دخلت زامبيا في حداد وطني طويل، وجرى اتخاذ قرار رمزي بالغ الدلالة: دفن الضحايا قرب ملعب الاستقلال في لوساكا، في موقع بات يُعرف باسم Heroes’ Acre (عكا الأبطال).

الفكرة هنا ليست طقوسية فقط. فحين تُدفن كتيبة المنتخب قرب ملعبه، يصبح المكان “ذاكرة ملموسة”. وكل مباراة تُلعب هناك تمرّ بمحاذاة القبور، وكل جيل جديد يتدرب وهو يعرف أن من سبقه لم يغادر اللعبة… بل صار جزءا من أرضها.

وإذا كانت كثير من المآسي الرياضية تُختزل بمرور الوقت في تواريخ وأرقام، فإن “عكا الأبطال” جعلت مأساة زامبيا عصية على النسيان، لأنها منحت الحداد عنوانا جغرافيا واضحا ومفتوحا أمام الجمهور. مكانٌ يمكن أن تزوره، تُسمي أسماءه، وتربط كرة القدم بما لا تريد اللعبة عادة الاعتراف به: الموت.

زامبيا لم تنسحب من تصفيات كأس العالم 1994

كان المنطق البشري يفترض إن زامبيا ستنسحب من إقصائيات كأس العالم لولايات المتحدة الأمريكية 1994. إذ كيف لفريق فقد أغلب لاعبيه وطاقمه أن يواصل سباق التأهل في ظرف أسابيع؟

ما حدث لاحقا يشبه قصص “الانبعاث من الرماد” التي لا تصدقها إلا إذا كانت موثّقة. لقد تم تجميع منتخب جديد في وقت قياسي، واستُكملت التصفيات، وتحوّلت مهمة التأهل إلى ما يشبه مهمة “إثبات الحياة”.

في قلب هذه العودة كان هناك عنصران: أولهما الإرادة السياسية/المجتمعية لعدم دفن الحلم مع الضحايا، وثانيهما حضور بواليا كقائد قادر على منح الفريق الجديد هوية ومعنى.

لم تكن جودة اللاعبين الجدد، من حيث الخبرة الدولية،بمستوى الجيل الذي رحل، لكنهم امتلكوا ما لا يظهر في التقارير الفنية: الشعور بأنهم يلعبون “بالنيابة” عن الذين غابوا.

المغرب-زامبيا 1993.. مباراة صنعت مونديالا وكسرت حلما

داخل هذا السياق، تُصبح مواجهة المغرب وزامبيا في تصفيات مونديال 1994 أكثر من “واقعة رياضية” في أرشيف النتائج. ففي أكتوبر 1993، وصل الصراع في المجموعة إلى لحظة حاسمة، كانت معها زامبيا تحتاج نتيجة إيجابية لتُبقي حلم مونديال 1994 حيا، والمغرب بدوره كان يرى في الفوز طريقا مباشرا نحو كأس العالم. وأقيمت مباراة المغرب – زامبيا في 10 أكتوبر 1993 بالدار البيضاء وانتهت 1-0 لصالح المغرب.

تُستحضر هذه المباراة في الذاكرة المغربية عادة بوصفها محطة من محطات التأهل التاريخي إلى مونديال 1994، بينما تُستحضر في الذاكرة الزامبية بوصفها “النقطة التي كانت تفصل بين المعجزة والواقع”.

في كلتا الروايتين، تبقى الحقيقة واحدة: زامبيا، بعد أشهر قليلة من دفن فريق كامل، كانت قريبة بما يكفي لتجعل التأهل ممكنا، لكنها أنهت التصفيات خلف المغرب بفارق ضئيل.

الأهم من النتيجة نفسها هو ما صنعته تلك الحملة في وعي الكرة الإفريقية: فكرة أن المنتخب يمكن أن يعود من موت شبه جماعي إلى منافسة كبار القارة على بطاقة كأس العالم، في زمن كانت فيه بطاقة إفريقيا لمونديال 1994 محدودة للغاية. لهذا تظل قصة زامبيا في تصفيات 1994 واحدة من أكثر قصص التأهل/الإقصاء “درامية” في تاريخ التصفيات الإفريقية.

من الحداد إلى نهائي كأي إفريقيا 1994

ما حدث بعد تصفيات كأس العالم زاد القصة غرابة وثراء. زامبيا دخلت كأس أمم إفريقيا 1994 في تونس بفريق جديد، وبروح تُشبه “التحدي ضد الفقد”، ووصلت إلى النهائي أمام نيجيريا.

صحيح أنها خسرت اللقب في النهاية، لكن الوصول نفسه كان رسالة: أن الكارثة لم تُنهِ المنتخب، بل أطلقت داخله نوعا من “المعنى الإضافي” الذي يجعل لاعبيه يلعبون بوعي مختلف.

هذه المرحلة تحديدا هي التي جعلت مأساة 1993 “قصة كروية مكتملة الأركان”: مأساة، حداد، وإعادة بناء، واقتراب من المونديال، ثم اقتراب من لقب قاري في أقل من عام.

عناصر نادرة في تاريخ الرياضة لأنها تُظهر كيف يمكن لكرة القدم أن تُصبح، أحيانا، لغة لتصريف الحزن الجماعي وتحويله إلى فعل.

2012.. عندما عاد الذهب إلى المكان الذي ابتلع الطائرة

بعد 18 عاما، جاء الفصل الذي منح القصة نهاية رمزية لم يكتبها كاتب سيناريو، بل كتبها الزمن نفسه. في كأس أمم إفريقيا 2012، فازت زامبيا لأول مرة في تاريخها باللقب، وكان النهائي في ليبرفيل بالغابون، قريبا من موقع سقوط الطائرة، أمام ساحل العاج، وانتهى بركلات الترجيح بعد التعادل في المباراة بصفر لمثله.

لا تحتاج هذه الواقعة إلى مبالغات كي تبدو استثنائية. المكان نفسه الذي بدأ فيه الجرح صار مكانا للشفاء الرمزي. والمنتخب الذي فقد جيلا كاملا على بعد مئات الأمتار من الشاطئ، حمل الكأس من مدينة قريبة جدا من “الماء الذي ابتلع الذاكرة”.

بهذا التتويج، لم يعد لقب 2012 مجرد بطولة؛ بل صار “استعادة معنى” لسنوات الحزن الطويلة. ومنذ ذلك اليوم، كلما ذُكرت زامبيا في البطولات القارية، ذُكر معها 1993 و2012 كحبلين يشدان القصة من طرفين: طرف الموت، وطرف الحياة.

حين يصبح الحداد معنى

هكذا لا تبقى فاجعة طائرة منتخب زامبيا 1993 مجرد صفحة حزينة في أرشيف الرياضة، بل تتحول إلى واحدة من أكثر قصص كرة القدم الإفريقية كثافة في المعنى.

بلد خسر جيلا كاملا وهو في طريقه إلى الحلم، ثم رفض أن يطوي الحلم مع النعوش، فاختار أن يعيد بناء نفسه من الصفر.

في هذه الحكاية تتجاور الوقائع القاسية، حريق محرك، وخطأ طيار، وسقوط في بحر قريب من الساحل، مع حقائق إنسانية أعمق: كيف يمكن للألم أن يصنع ذاكرة جماعية، وكيف تتحول الخسارة إلى مسؤولية، وكيف يتعلم شعبٌ أن يواصل الطريق وهو يعرف أن “العودة” ليست انتصارا كاملا، لكنها الطريقة الوحيدة كي لا يتحول الموت إلى نهاية نهائية.

منذ ذلك اليوم، صار اسم “زامبيا” يحمل أكثر من منتخب وأكثر من نتائج. يحمل “عكا الأبطال” في لوساكا بوصفها شاهدا على أن اللاعبين يمكن أن يصبحوا جزءا من الجغرافيا، ويحمل صورة كالوشا بواليا وهو ينتقل من نجم إلى رمز، ومن لاعب إلى حامل لمعنى أوسع من الكرة. ويحمل أيضا فكرة نادرة في التاريخ الرياضي: أن فريقا يمكن أن يعود من الفاجعة ليطرق أبواب كأس العالم، ثم يقترب من لقب قاري، ثم يحقق اللقب أخيرا قرب المكان الذي بدأ فيه الجرح، وكأن الزمن، بعد طول صمت، قرر أن يمنح القصة خاتمة لا تمحو الألم لكنها تمنحه معنى.